القَدَر



نزل من القطار حاملا حقيبة صغيرة وعواطف و تساؤلات و حنين . الذّكريات تمرّ أمام عينيه تباعا . مضى زمن طويل منذ أن غادر البلدة إلى حيث لا يدري , كان يرتحل من مكان إلى آخر دون اختيار وِجهة معيّنة و ما إن أن يبدأ في الإستقرار و التّأقلم حتّى يعاود التّرحال من جديد , كان لا يثبت في مكان واحد . كان مثَله كمَثَل الذي يفرّ من عدوّ مخيف . لكنّه كان يسابق الماضي و لا يترك له مجالا للحاق به و إدراكه فكّر في كلّ الذين جرحهم بترحاله و اعتذر منهم في سِرِّهِ و التمس لهم الأعذارَ فهم لم يفهموا ما كان يعانيه من الوحدة التي كان يكابدها رغم وجودهم حوله , كان خائفا و مذعورا من تكرار تجربته المريرة التي ضلّت ذكراها تعيش داخله و تقضّ مضجعه و تنخر عواطفه أو ما تبقّى منها .

منذ سنوات خَلَتْ هام بها و عشقها و لم يعد يرى في الدّنيا سواها و كانت تبادله نفس الشّعور و العواطف الجيّاشة , كان حبّهما طاهرا عفيفا نقيّا لا تشوبه شائبة من غريزة أو مصلحة حتّى غدا مَضْربَ الأمثالِ و مُلْهِمَ القصّاصين و الشّعراء الذين كانت تَغصُّ بهم البلدة . بنا برفقتها الأحلامَ العديدة و الأماني , خطبها من أهلها و حُضي بالقَبول و الرّضى ومضى يستعدّ لبناء العشّ الذي سيحتضن حبّهما , لم يدّخر جهدا و لا وقتا في سبيل تعجيل ميعاد اليوم الذي كانا ينتظرانه بشغف و أمل . و لمّا قرُب ذلك اليوم فوجئ بالمرض المفاجئ الذي أصاب حبيبته و لم يمهلها ألّا أيّاما قليلة أَسْلَمَتْ بعدها روحها الطّاهرة الزّكيّة . لقد ذهبت لغير رجعة و أخذت معها قلبه الذي لن ينساها و لن يضعَ داخِلَهُ غيرَها من بنات حوّاء .

أفاق من شروده و كفكف دَاخِلَهُ دُموعهُ و اتّجه إلى المقبرة ...

تعليقات
0 تعليقات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق