اتحافُ أهلِ الإيمانِ بما دلَّ على عربيةِ القرآنِ


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم


اتحافُ أهلِ الإيمانِ بما دلَّ على عربيةِ القرآنِ

((الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنَّا لنهتديَ لولا أنْ هدانا الله))،
"وصلَّى الله على نبيِّنا كلَّما ذكره الذاكرون، وغَفَل عن ذكره الغافلون. وصلى الله عليه في الأوَّلين والآخرين. أفضلَ وأكثرَ وأزكى ما صلَّى على أحدٍ من خلقه. وزكَّانا وإياكم بالصلاة عليه، أفضلَ ما زكَّى أحدًا من أمته بصلاته عليه، " من كلام الشافعي، في كتابه (الرسالة)، رقم 39
وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإِحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد
فقد أنزل الله بفضله علي رسوله كتاباً ساطعاً تبيانه قاطعاً برهانه، ناطقاً ببينات وحجج، قرآناً عربياً غير ذي عوج، أعجز الخليقة عن معارضته وعن الإتيان بسورة من مثله في مقابلته، ثم سهّل على الخلق مع إعجازه تلاوته، أمر فيه وزجر وبشّر وأنذر فهو كلام معجز في رقائق منطوقة ودقائق مفهومة، لا نهاية لأسرار علومه.

ومن تمام إعجازه ومزيد تشريفه لأمة العرب أن جعله بلسانها كما قال في سورة الزمر (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) ودليل عربيته الخالصة أن الله تعالى أخبرنا بذلك في كتابه العزيز الذي { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت: 42] .

قال الله تعالى: ((إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)) (2) سورة يوسف
قال الله تعالى: ((وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا)) (113) سورة طه
قال الله تعالى: ((وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)) (28) سورة الزمر
قال الله تعالى: ((حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ)) (4) سورة فصلت
قال الله تعالى: ((وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) سورة الشورى
قال الله تعالى: ((حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ))(4) سورة الزخرف
وقال تعالى: { وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } [سورة الشعراء: 192-195].

سبب الكلام على هذه المُسلّمة (عربية القرآن):
الذي دفعني للحديث في هذا الأمر الجلل ما لاحظته من كثرة توافد الإخوة (بارك الله فيهم وخاصة في دروس اللغة العربية) للسؤال عن هذا الأمر وما شابهه من شبهات تلقى على أسماعهم فتسقط في قلوبهم من غير رد مقنع منهم؛

وإنما تلقى هذه الشبهات وأمثالها على طلبة الجامعات خاصة وكثير من رواد الشبكة العنكبوتية وبخاصة في منتديات (اللادينيين) و (النصارى) لعلم من يلقي عليهم الشبهة بقلة بضاعتهم من العلم الشرعي أو أنه يظن ذلك
فما يمر مجلس من مجالس الدرس إلا وأجد سؤالا أو أكثر عن شبهة في هذا الصدد،

س : يقول بعضهم القرآن ليس عربيا خالصا، لاشتماله على كلمات أعجمية مثل (سندس) و(إستبرق) وقد أنكر بعض العرب ألفاظ (قسورة) و(كبّارا)، و(عجاب) فكيف نرد على هؤلاء وأمثالهم؟

جـ : هذا سؤال من الأهمية بمكان و يحتاج إلى مزيد بيان، وإنما شفاء العِيّ السؤال كما أخبرنا حبيبنا – صلى الله عليه وسلم –

و إحقاقا للحق الذي ندين به لله فإن هذه الشبهة الداحضة قديمة جدا بقدم نزول القرآن على حبيب الحق سبحانه نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم –

ولكن ينبغي أن يعلم أولا أن التشكيك في القرآن الكريم منهج قديم مدروس ومعلوم لأهل الكفر والضلال وانظر إلى قوله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)

وهكذا تتضح الأمور على حقائقها

(وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)

إنه منهج كفري

وقد تصدى له أهل العلم قديما وحديثا بفضل الله تعالى،

وعليه فإننا إذا رجعنا إلى كلام السادة العلماء وجدنا الجواب الكافي الشافي لهذه الشبهة الداحضة المعراة عن الحق.

فقد كان الإمام الشافعي رحمه اللّه أول من رد بكلامه الفصيح،
وحجته القوية على هذا الزعم، مبينا أنه ليس في كتاب اللّه شيء إلا بلسان العرب، مفندا حجج هؤلاء الزاعمين
وأهمها ثنتان:
الأولى- أن في القرآن خاصا يجهل بعضه بعض العرب.
والثانية- أن في القرآن ما ينطق به غير العرب.

ورد على الحجة الأولى:
بأن جهل بعض العرب ببعض القرآن ليس دليلا على عجمة بعض القرآن، بل هو دليل على جهل هؤلاء ببعض لغتهم، فليس لأحد أن يدعي الإحاطة بكل ألفاظ اللسان العربي، لأنه أوسع الألسنة مذهبا، وأكثرها لفظا، ولا يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي.

ثم رد على الحجة الثانية:
بأن بعض الأعاجم قد تعلم بعض الألفاظ العربية، وسرت إلى لغاتهم، ويحتمل أن يوافق لسان العجم أو بعض الألسنة قليلا من لسان العرب، وقد يكون بعض الألفاظ العربية من أصل أعجمي، لكن هذا القليل النادر من أصل غير عربي قد سرى قديما إلى العرب، فعرّبوه، وأنزلوه على طبيعة لغتهم، وجعلوه صادرا من لسانهم، بحسب حروفهم ومخارج تلك الحروف وصفاتها في لغة العرب، وذلك مثل الألفاظ المرتجلة والأوزان المبتدأة لها، وإن كانت في الأصل تقليدا في تغمتها للغات الأخرى) الرسالة للإمام الشافعي: ص 41- 50، ف 133- 170، وانظر المستصفى للغزالي: 1/ 68، وروضة الناظر: 1/ 184

يقول الشيخ عطية صقر رحمه الله في فتاويه:
معروف أن اللغات تتلاقح فى بعض الألفاظ، أى يأخذ بعضها من بعض، بحكم الاتصالات بين الأفراد والجماعات والشعوب، التى هى ضرورة من ضرورات الحيلة الاجتماعية للبشر، فما يوجد فيها من ألفاظ متحدة قد يكون لانتساب لغتين إلى أصل واحد أو لشئ آخر، وقد يكون نقلا من لغة إلى لغة، وإذا نقل لفظ واستعمله الناقلون مدة طويلة صار من لغتهم.

فإذا كان فى القرآن الكريم ولغة العرب ألفاظ أصلها غير عربى مثل أباريق وأرائك وإستبرق فقد استعملها العرب وصارت مألوفة لهم ، وأجروا عليها قواعد لغتهم فى الإعراب والاشتقاق والإفراد والتثنية والجمع وغيرها.

وقد جاء فى تفسير القرطبى "ج 1 ص 68" أنه لا خلاف بين الأئمة فى أنه ليس فى القرآن كلام مركب على أساليب غير العرب ، وأن فيه أسماءً أعلاما لمن لسانه غير لسان العرب كإسرائيل وجبريل وعمران ونوح ولوط .

واختلفوا :
هل وقع فيه ألفاظ غير أعلام مفردة من غير كلام العرب؟ فذهب القاضى أبو بكر بن الطيب والطبرى وغيرهما إلى أن ذلك لا يوجد فيه، وأن القرآن عربى صريح، وما وجد فيه من الألفاظ التى تنسب إلى سائر اللغات إنما اتفق فيها أن تواردت اللغات عليها فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة وغيرهم .

وذهب بعضهم إلى وجودها فيه، وأن تلك الألفاظ لقلتها لا تُخرج القرآن عن كونه عربيا مبينا، ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كونه متكلما بلسان قومه ، ...، ومنه { إن ناشئة الليل } {يؤتكم كفلين } أى ضعفين ، {فرت من قسورة} أى الأسد، كله بلسان الحبشة .
والغساق أى البارد المنتن هو بلسان الترك ، والقسطاس أى الميزان هو بلغة الروم ،
والسجيل أى الحجارة والطين هى بلسان الفرس ،
والطور أى الجبل ، واليَم أى البحر هما بالسريانية ،
والتنور أى وجه الأرض هو بالعجمية .

قال ابن عطية : فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها فى الأصل أعجمية ، لكن استعملتها العرب وعرَّبتها فهى عربية بهذا الوجه .

وقد كان للعرب العاربة التى نزل القرآن بلسانها بعض مخالطة لسائر الألسنة بتجارات وبرحلتى قريش ، وسفر بعض الأشخاص إلى بلاد أخرى، فعلقت العرب بهذا كله ألفاظا أعجمية غيرت بعضها بالنقص من حروفها، وجرت إلى تخفيف ثقل العجمة واستعملتها فى أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربى الصحيح ، ووقع بها البيان .

وعلى هذا الحد نزل بها القرآن . فإن جهلها عربى ما فكجهله الصريح بما فى لغة غيره ، كما لم يعرف ابن عباس معنى "فاطر" إلى غير ذلك .

قال ابن عطية : وما ذهب إليه الطبرى رحمه الله من أن اللغتين اتفقتا فى لفظة لفظة فذلك بعيد، بل إحداهما أصل والأخرى فرع من الأكثر، لأنَّا لا ندفع أيضا جواز الاتفاق قليلا شاذا .

وقال غيره : والأول أصح - أى أن القرآن فيه كلمات أجنبية صارت بعد ذلك عربية –
وقوله : هى أصل فى كلام غيرهم دخيلة فى كلامهم ليس بأولى من العكس ، فإن العرب لا يخلو أن تكون تخاطب بها أولا، فإن كان الأول فهى من كلامهم ، إذ لا معنى للغتهم وكلامهم إلا ما كان كذلك عندهم ، ولا يبعد أن يكون غيرهم قد وافقهم على بعض كلماتهم ، وقد قال ذلك الإمام الكبير أبو عبيدة ،
فإن . قيل : ليست هذه الكلمات على أوزان كلام العرب فلا تكون منه ،
قلنا: ومن سلم لكم أنكم حصرتم أوزانهم حتى تخرجوا هذه منها ؟ فقد بحث القاضى عن أصول أوزان كلام العرب ، ورد هذه الأسماء إليها على الطريقة النحوية.

وأما إن لم تكن العرب تخاطبت بها ولا عرفتها استحال أن يخاطبهم الله بما لا يعرفون : وحينئذ لا يكون القرآن عربيا مبينا ، ولا يكون الرسول مخاطبا لقومه بلسانهم

نقل الزحيلي في تفسيره بتصرف عن الطبري – رحمه الله تعالى - قال:
((القرآن كله عربي ، نزل بلسان العرب، وما من لفظ فيه إلا وهو عربي أصلا، أو معرّب خاضع لموازين اللغة العربية وقوالبها ومقاييسها ... ))

و عليه فقد تضافرت الآيات القرآنية بالتصريح بأن القرآن كله عربي، جملة وتفصيلا، وأنه نزل بلسان العرب قوم النّبي صلّى اللّه عليه وسلم، وقد ذكرت طائفة منها في صدر مقالتي وثم آيات أخر

و قد رتب الشافعي – رحمه الله تعالى - على عربية القرآن حكما مهما جدا،
فقال: فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يشهد به أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدا عبده ورسوله، ويتلو به كتاب اللّه، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وأمر به من التسبيح والتشهد، وغير ذلك.

وكان من مزية عربية القرآن وفضله على العرب أمران عظيمان هما:
الأول- إن تعلم القرآن والنطق به على أصوله يقوّم اللسان، ويفصّح المنطق، ويصحح الكلام، ويساعد على فهم لغة العرب، فليس هناك شيء يشبه القرآن في تقويم الألسنة، حين تتأثر باللهجات العامية المختلفة.

الثاني- كان للقرآن الفضل الأكبر في الحفاظ على اللغة العربية، في مسيرة القرون الأربعة عشر الغابرة، بما اشتملت عليه من فترات ضعف وتخلف وتسلط المستعمرين الأوربيين على بلاد العرب،

بل إن القرآن عامل أساسي في توحيد العرب، وباعث قوي ساعد في انتفاضة العرب ضد المحتل الغاصب والمستعمر البغيض، مما أعاد الصحوة الإسلامية إلى أوطان العرب والإسلام، وربط بين المسلمين برباط الإيمان والعاطفة القوية الصادقة، لا سيما في أوقات المحنة والحروب ضد المحتلين.

أحبتي في الله هذا غيض من فيض أفاض الله به على قلوب أهل العلم والنور والهدى،

و إني أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه وأسأله سبحانه حسن القول والعمل
اللهم
وفقنا لإصابة صواب القول في مُحْكَم القرآن ومُتَشابهه، وحلاله وحرامه، وعامِّه وخاصِّه، ومجمَله ومفسَّره، وناسخه ومنسوخه، وتأويل آيه وتفسير مُشْكِله.

اللهم
ألهمنا التمسك به والاعتصام بمحكمه، والثبات على التسليم لمتشابهه.

اللهم
أوزعنا الشكر على ما أنعمتَ به علينا من حفظه وأحفظ علينا اللهم العلم بحدوده. إنك سميع الدعاء قريب الإجابة.
وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما مزيدا.
والحمد لله رب العالمين


تعليقات
0 تعليقات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق