|
أرض النفاق, هي رواية للأديب المصري يوسف السباعي صدرت لأول مرة سنة 1949م .. و تُصنّف هذه الرواية ضمن الأعمال الأدبية السوسيولوجية التي تنبه قراء الرواية بالمشاكل الإجتماعية و الإنحرافات الأخلاقية التي إعتاد عليها الناس و أصبحت ظواهر إجتماعية منتشرة و مألوفة لا يندهش منها أحد أو ينفر منها احد. الرواية تقدم نقدا أخلاقيا قويا للمجتمع المصري في الزمن الذي كتب فيه يوسف السباعي روايته (نهاية الأربعينات) من خلال محل خيالي يبيع حبوب سحرية تجعل المرء قادرا و محبا للسلوك الإيجابي من مروءة و شجاعة و صدق و أمانة و غيره .. و كذلك السلوك السلبي من نذالة و جبن و نفاق و كذب و غيره, حسبما يشتري كل واحد من بائع الاخلاق ما يريده من أخلاق.
و تدور أحداث الرواية عن بطلها الذي يشتري حبوب السلوك الإيجابي (الشجاعة) فيعاني بسببها من الناس و يلفظه المجتمع الجبان لفظا, ثم حين يشتري حبوب السلوك السلبي (النفاق) فيصلح كل شيء و يقبله الجميع و يترقى في المجتمع. أحداث الرواية تدور في سياق خيالي لكنه شديد الواقعية في نقده الإجتماعي, حيث فضح السباعي في الرواية معظم أشكال العوار الاجتماعي والسياسي في تلك الفترة. و قد قام الفنان فؤاد المهندس بتمثيل هذه القصة في فيلم أرض النفاق (نفس اسم الرواية) عام 1968 .. مع بعض المعالجة السنيمائية للرواية : حيث تم جعل بطل الفيلم متزوجا لكي تكون الفنانة شويكار لها دور بطولة, في حين ان بطل الرواية لم يكن متزوجا.
و ميزة مثل هذة الرواية عن أي رواية سوسيولوجية (إجتماعية) أخرى, هو أن معظم هذة الروايات تنتقد الدولة من حيث هي نظام سياسي عسكري-بوليسي يقهر المجتمع و يسحق قيمه الجميلة و روحه المبدعة .. كما في روايات جورج أورويل و غيره. لكن في هذة الرواية (و ما يشابهها) نجد النقد ذاتيا موجه للمجتمع نفسه و للناس أنفسهم كصناع للفساد و الإنحطاط و للنظم الفاسدة و الدول الفاشلة. و لهذا السبب تحديدا يمكن إعتبار الرواية مهمة و أخلاقية, و نقدها الصادق للمجتمع المنافق يكشف حسا اخلاقيا راقيا لدى يوسف السباعي.
فساد السياسة
و هنا يبدأ سؤال مهم في فرض نفسه : إذا لم يكن المجتمع أخلاقيا بل كانت المفاسد و الإنحرافات السلوكية منتشرة و شائعة بين الناس, بل و محمودة و محبوبة منهم أيضا .. فكيف يمكن ان يكون النظام السياسي لهذا المجتمع ؟!! و إلي أي حد يمكن ان يتفق المجتمع على قرارات سياسية أو حيوية من خلال آليات الديموقراطية إن كان الكذب و النفاق و الخسة و الخيانة هي سلوكيات شائعة في هذا المجتمع ؟!!
بل يبدو الأمر أعقد من ذلك حتى ..
فكم مرة تأكد الفرد منا أن مجتمعه مخطئ أو مغيب أو يسئ التقدير في موقف معين أو في فكرة معينة ؟!! يعني في الموضوعات الدينية و الفلسفية, هل يتفق الناس على الأفكار الصحيحة و يتركون الأفكار الخاطئة ؟! و في الإنتخابات السياسية, هل دائما يختار الناس من هو أصلح و أنفع للمجتمع من بين المتنافسين في الإنتخابات ؟!! هل يختار كل فرد من هو أفضل للصالح العام, ام يختار من يمثل جماعته أو طائفته او دينه او عنصره فقط ؟!! و في الفنون و السنيما, هل دائما الفيلم صاحب أعلى الإيرادات و محطم شباك التذاكر هو أفضل فيلم .. أم انه قد يكون فيلما تجاريا مسفا ؟! و في الإقتصاد الرأسمالي, هل دائما يعبر العرض و الطلب على أي سلعة عن مدى جودتها و أهميتها .. أم اننا كثيرا ما نجد سلع و خدمات تافهة و مظهرية بلا نفع و هي غالية الثمن جدا ؟!! و في البورصة, هل دائما يعبر إرتفاع أو إنخفاض أسعار الأسهم عن قوة و جودة الشركات المتنافسة .. أم عن ذعر أو إشاعات أو تلاعب من كبار المضاربين ؟!!
طبعا كلنا يعرف الإجابة, و كل فرد منا قد واجه هذة المواقف أو كلها مرات كثيرة .. قليل من ينكر ذلك. و رغم إن الناس لا يجمعون على أي شئ إلا أن الغالبية الساحقة من الناس تصدق أتفه الإشاعات و الخرافات الدينية و غير الدينية, و غالبيتهم يسئ اتخاذ القرارات سواء الفردية أو الإجتماعية, و غالبيتهم يختار اسوأ السياسيين و اكثرهم فسادا من خلال نظام ديموقراطي يحكم و يقرر كل شئ !! فالدين مثل الحزب مثل الشركة مثل السلعة مثل الفيلم مثل حتى القناة على اليوتيوب و الصفحة على الفيسبوك يتحكم فيهم جميعا صعودا و هبوطا إقبال الناس و إعجابهم بالمحتوى .. دون أن يعبر هذا عن جودة المنتج نفسه.
و بسبب نظام السوق و التنظير الراسمالي يعتبر غالبية الناس أن الديموقراطية حق بديهي و مقدس لها, فمن حق الناس أن تقاطع أو تسئ إلي جريدة معينة لأنها تنشر حقائق لا تعجبها او صور مسيئة لمعتقداتها بأي شكل ! من حق الناس أن تقبل على مشاهدة فيلم تافه غوغائي فيكسب المنتج و المخرج و الممثل اموالا تتيح لهم إنتاج المزيد من التفاهة و السخافة !! من حق الناس عبادة مكعب أسود أو صليب خشبي فتكتسب خرافاتهم قوة و إنتشار أكثر !!! من حق الناس إنتخاب أغبى و أجهل كائنات حية لمجرد أنهم يجيدون نفاق الناس و التلاعب بطموحاتهم و أمانيهم !!!! و كل ذلك بسبب هذة العقيدة الحمقاء عن حقوق الأفراد و حكمة القرار الجماعي المسماة “ديموقراطية” و هي العقيدة المتعارضة مع العلم نفسه جملة و تفصيلا !!
و لهذا نجد الناس يتحدثون دائما عن فساد السياسة و كأنها قدر يستحيل تغييره أو تحسينه : السياسي يكذب دائما, يقول ما لا يؤمن به طمعا في المنصب, يتحالف مع اعداء الأمس و يعادي حلفاء الأمس .. يتفاهم مع اعداء الوطن و أحيانا يخضع للقوى الأجنبية و كل شيء يحدث يكون في الخفاء (من تحت المنضدة). لهذا يسهل جدا على الناس أن لا تثق في المشتغلين بالسياسة, ان تعتقد أن كل كلامهم كذب و كل مواقفهم مزيفة .. انهم مجرد طلاب سلطة و نفوذ و ربما مرتشون أيضا. و فضائح السياسة لا تنتهي : ابتداءا من اتفاقيات الدول العظمى لتقسيم مناطق نفوذها, مرورا بكمية الإنقلابات التي دبرتها دول عظمى (أمريكا مثلا) بوثائق مؤكدة جعلت المؤامرات معروفة تاريخيا و ليس إنتهاءا بالنفوذ الخفي و الضغوط التي تمارسها على السياسيين .. و ما خفي كان أعظم.
لكن لماذا السياسة بالتحديد التي تعاني من هذا الكم الهائل من الفساد, ليس في الدول النامية و المتخلفة فقط .. بل هي الشكوى الدائمة من مواطني الدول المتقدمة أيضا. و الغريب أن الكل يشكو من فساد السياسة لكن لا أحد يتكلم عن فساد الديموقراطية !! الفساد يبدو مرتبطا بشكل محسوم بالدول الديكتاتورية المستبدة مع إن فضائح الفساد في كل الدول الديموقراطية أيضا لا تتوقف أبدا. طيب إذا كان الإستبداد فاسدا و الديموقراطية فاسدة فكيف يمكن ان تُحل تلك المعضلة ؟! الفساد هنا يبرر على أساس أنه جزء من الطبيعة البشرية التي تحتوي على الصلاح كما تحتوي على الفساد, و بالتالي فالقضاء التام على الفساد يعتبر مستحيلا بهذا المنطق. لكن من قال أن المطلوب هو القضاء على الفساد ؟!! في كل دول العالم هناك فساد و هو فعلا جزء من الطبيعة البشرية, لكن هل فساد الساسة يساوي او يقارب حتى فساد الأطباء أو المهندسين أو الخبازين أو رجال الشرطة أو القضاة او أي فئة مهنية اخرى ؟ ولا حتى قريب منهم. فمع إن الساسة بشر و بقية الناس بشر, إلا أن منظومة العمل السياسي هي السبب الرئيسي في فساد السياسة و الساسة.
و مع إن كل منظومة ديموقراطية هي منظومة تكرس للفساد و النفاق و الإنحلال, سواء كانت السياسة أو الإقتصاد أو الدين أو غيره .. إلا أن في كل مهنة هناك نظام واضح و لا نقاش فيه لإحتراف المهنة : المهندس مثلا يجب أن يحصل على شهادة معتمدة تؤكد أنه يملك العلم الكافي لتصميم المباني او العمل في المصانع .. و لا يمكن لأي واحد لم يدرس الهندسة ان يرشح نفسه مثلا في إنتخابات لكي يحصل على منصب رئيس المهندسين !! و لا يوجد أصلا منصب بهذا الشكل, بل كل مهندس يعمل من خلال شركة تقوم بتوظيف علمه و مهارته. و حب الجماهير ليس شرطا لإمتهان الهندسة, فلا يوجد مهندس مضطر للكذب على الناس و تعليق بوستراته على الحوائط و هو يقبل الأطفال الصغار (عاش المهندس حبيب المبلولين) حتى يحصل على البكالريوس. هناك فقط علم يختبر بإمتحانات و تجارب يتأكد بها أساتذة الهندسة أن هذا الطالب يستطيع ممارسة المهنة, و الأمر ليس حكرا على الهندسة طبعا بل إن كل المهن المحترمة المنظمة بهذة الطريقة .. إلا إمتهان السياسة !!
الديماجوجية
في السياسة هناك مصطلح اسمه “الديماجوجية” و هذا المصطلح يشير إلي الممارسات الرخيصة للساسة من أجل إجتذاب الجماهير و تسويق أنفسهم للمنصب السياسي, و تتركز هذة الممارسات في نفاق الناس و مداهنتهم و التلاعب بمشاعرهم و طموحاتهم و غرائزهم و تعصباتهم و الكذب عليهم حتى يختاروا هذا السياسي لكي يكون رئيسا أو نائبا أو مسئولا .. طبيعي جدا أن يفقد الناس ثقتهم في السياسة على المدى الطويل !!
في السياسة, لا يمكن بأي حال فصل النظام الديموقراطي عن الممارسات الديماجوجية, و خصوصا حين تطبق على شعوب متخلفة جاهلة ضعيفة الثقة في نفسها و تنهار أمام النفاق و الكلمة الحلوة. الديماجوجية هي فن تغيب و نفاق و غسيل دماغ الشعب (كأي شركة تجارية تحاول تسويق منتجاتها الرأسمالية), لأن الشعب مكبوت عاطفيا و مهزوم حضاريا (بتفاوت من شعب إلي آخر) .. و محتاج للغزل و الكلمة الحلوة كل أربع سنين على الأقل. لهذا تجد الديماجوجي أحمق و جاهل و فاشل في إدارة كشك سجاير و لا يستطيع بالتالي أن يخوض في حديثه مع الجمهور في تطبيق سياسات أو تنفيذ حلول من أي نوع لأي مشكلة .. لذلك حين يخطب في الجماهير يتكلم بهذة الطريقة :
يا أذكى اشعب, يا أطيب شعب, يا أحن شعب, يا أفتك شعب, هات بوسة يا شعب !! يا اكثر أمة متدينة في العالم, يا سبعين ألف سنة حضارة .. بحبكم كلكم والله. إنتخبوني و سوف أجعلكم أقوى أمة في العالم في ظرف ثلاثة شهور, لا بل ثلاث أسابيع .. لقد حان الوقت الذي يحصل فيه هذا البلد على مكانه الذي يستحقه في قيادة العالم. هذا الشعب المذهل أذهل العالم و لا يزال قادرا على إذهال العالم إلي حد فشخه من الذهول. الشعب هو المعلم و القائد, و الأمة فوق الحكومة كما أن الحق فوق القوة. يا حبيبي يا شعب, تعالى في حضني تعالى .. لازم كلنا نحضن بعض و نتحمل بعض. و أحلى سلام على الدكاترة و المحامين و المحاسبين و المهندسين و سواقين التوكتوك .. كمان مرة سواقين التوكتوك !!
في السياسة ليس شرطا أن تكون متعلما أو مثقفا أو حتى لديك إطلاع على مسئولياتك السياسية التي تصدر نفسك لحلها حتى تستطيع ان تكون عضوا في البرلمان الوطني و تناقش الموازنة العامة للدولة و قضايا الامن القومي !! في الدول المتخلفة لا يناقش الشعب الامي الجاهل سياسات أو حلول المرشح السياسي بل ينتخبونه عمياني من خلال رمز إنتخابي (شكل) مثل رمز الجمل أو الهلال أو غيره .. جاهل ينتخب جاهل مثل أعمى يقود أعمى فيقع الإثنان في الحفرة. و حتى في الدول المتقدمة لا يختلف الوضع كثيرا .. فالقبول الجماهيري و حب الناس يفوق في الأهمية بالنسبة للسياسي أي تعليم أو علم او خبرات معرفية أو نجاحات عملية. و مع إن في كل مهنة لا يجوز أن يعمل بها من لا يملك العلم او الخبرة الكافية, حتى لا يبني المهندس مباني تنهار و تقتل الناس, حتى لا يقتل الطبيب المرضي بدلا من ان يشفيهم, حتى لا يفسد الجهل أي عمل هناك معايير تنظم كل هذة الأعمال .. لكن إدارة بلد كاملة و أمة كاملة من اجل تحقيق غد أفضل للجميع و تجنب أي كوارث إقتصادية او مجاعات أو فشل يمس ملايين و ملايين يترك الأمر دون معايير مهنية او تنظيم علمي !!
و كل هذا يرجع إلي تصور خاطئ عند عامة الناس ان إدارة الدولة لا تحتاج إلي مؤهلات, تعيين سكرتير أو طباخ رئيس الدولة يحتاج إلي مؤهلات لكن الرئاسة لا تحتاج إلا إلي حب الناس فقط. فليس بالضرورة أن يكون الرئيس مديرا ناجحا, او محاميا او مهندسا أو طبيبا .. الرئيس قد يكون ممتهنا لأي مهنة قبل ان يكون رئيسا, او حتى قد يكون جاهلا أو في معتقلات المعارضة منذ سنين طويلة !! و قد كان جهل الرئيس جورج بوش الإبن بكل شيء في العالم تقريبا هو مثار ضحك و سخرية كل أمريكي .. ينتخبونه لكي يسخروا من جهلة !! فأقوى دولة في العالم و أعرقها في الديموقراطية يمكن أن يكون رئيسها أحمقا, فما بالك بانظمة ديموقراطية لازالت تحبو أو تتلمس طريقها في الظلام ؟!
أهل الصنعة
الديمقراطية تعني في الأصل حكم الشعب لنفسه, و هي في التطبيق شكل من أشكال الحكم السياسي قائمٌ بالإجمال علَى التداول السلمي للسلطة وحكم الأكثريّة من خلال نواب عنهم (يعني الشعب لا يحكم بنفسه طبعا). و حكم الأكثرية في الحقيقة هو حكم الناس الأقل علما و تعليما و ذكاء .. هو حكم الجهلة و الأقل ذكاء. و عيوب الديموقراطية يمكن تلخيصها في شقين, الأساس النظري الفلسفي في حكم الشعب لنفسه .. و التطبيق العملي للنظام الديموقراطي. فالأساس النظري الفلسفي باطل لسبب, هو أن الشعب غير متخصص في أمور الحكم و ان الحكم هو علوم و تقنيات لا يجيدها إلا أهل الإختصاص بالمنهج العلمي .. و ليس هواة السياسة من الشعب بالحدس و الإفتراض. ثم إن حتى هذا التصور الخرافي الفاسد عن حكم الشعب لنفسه بغير إختصاص يستحيل تطبيقه عمليا أيضا, لان الطبقية و التراتبية في الكائنات الحية و في الجنس البشري هي قدر الطبيعة الذي لا فكاك منه .. و بالتالي ففي كل الأنظمة السياسية يجب أن تكون هناك طبقة حاكمة منتفعة (الأغنياء مثلا أو العسكريين أو أعضاء الحزب الحاكم) في النهاية مهما إدعى النظام من ديموقراطية و مساواة.
و من يرى أن المشكلة في جهل أو همجية بعض الشعوب و ليس المشكلة في الديموقراطية هو مخطئ تماما. المشكلة في الديموقراطية نفسها, لأنه لا يوجد نظام سياسي جيد و فعال لأنه يصلح مع بعض الناس و لا يصلح مع البعض الآخر !! المشكلة إن حكم أي دولة هو علم يحتاج إلي علماء متخصصين كل في مجاله, علماء إقتصاد و علماء إجتماع و علماء هندسة و غيره .. الناس مهما كانت متعلمة و مثقفة لن تكون متخصصة و متفرغة في شئون الحكم مثل العلماء و العباقرة المتخصصين في علوم الحكم. لذلك فالشعب ليس من حقه ولا من واجبه أن يختار ممثليه بناء على جهل, و ليس من حقه او من واجبه ان يقيم آداءهم بناءا على جهل .. فالكفاءة هي التي تختار الحكام و المدراء بشكل آلي من خلال العلوم النظرية و الإنجازات العملية في كل مجال للحكم. فإدارة الدولة لا تختلف عن إدارة أي مصلحة حكومية او شركة رأسمالية, بل هي أكثر ما يحتاج للكفاءة و العلم و ليس الرضا أو القبول أو التوافق الشعبي !!
لكن للأسف نحن دائما ما نعتمد على الرأي و الشعبية بدلا من ان نعتمد على العلم و المنهجية. و لهذا يفرح الناس برئيس أحمق من الشعب ماداموا يتوهمون أنهم من إختاروه حسب هواهم .. بدلا من فريق عمل مكون من أعظم علماء البلد (كل بلد و علماؤه) الأفذاذ, لا شعبية لهم ولا يعرفهم رجل الشارع لكنهم أفضل علماء في مجالهم و الأكثر إنجازا و نجاحا. فحتى فكرة أن هناك رئيس فرد واحد يعرف كل شيء و يدير دولة كبيرة أو صغيرة – دولة تحتاج إلي علوم و خبرات و ذكاء – هو عته ما بعده عته, فلا يوجد مثل هذا الفرد الخارق العالم بكل شيء و القادر على كل شيء !!
لذلك فتحويل الحكم إلي مجرد عمل إداري بحت يجتذب الكفاءات العلمية تحديدا و الأكثر إنجازا بشكل عملي من خلال آلية منهجية موضوعية هو أفضل ما يمكن عمله. اما أنا يكون الهدف هو مراضاة الشعوب سواء كانوا متعلمين أو رعاع, فهو قمة الفشل .. تطييب خاطر الناس و إيهامهم أنهم من يحكمون بلدهم بمزاجهم هو أسوأ ما يمكن عمله و أكذب ما يمكن قوله. العبرة بالإنجاز و الفعالية و الكفاءة و ليس بالشعبية و حب الجماهير و الوحدة الوطنية : رجل أو إمراة, عجوز أو طفل, أسود أو أبيض, من أي عرق أو حتى جنسية .. العبرة بالكفاءة العلمية و الفعالية العملية و ليس بنفاق الناس و خداعهم بسياسة قذرة كذوبة.
و من الأساس لا توجد دولة متقدمة طبقت الديموقراطية إلا بعد أن تقدمت فعلا و نهضت فعلا و ليس قبل ذلك. فمن يريد تطبيق الديموقراطية كما هي في أمريكا يجب عليه أولا أن يمر بما مرت به أمريكا من بناء و تقدم قبل أن تصبح ديموقراطية .. عليه أن يخطف سود البشرة من إفريقيا لكي يسخرهم للعمل في المناجم و المزارع و بناء السكك الحديدية مجانا, عليه أن يجعل الديموقراطية حكر على الرجال الاغنياء البيض في البداية, عليه ان يسمح بتفاوت إقتصادي و إجتماعي فج و صارخ, و أن يجبر العمال على العيش عيشة العبيد في العصور الوسطى. و بعد أن تتقدم الدولة و يتم تحديث المجتمع كما فعلت أمريكا يمكن لها ان تتحمل رفاهية الديموقراطية كما يمكن لها أن تتحمل إعانات البطالة و تكاليف صيانة البيئة و الضمانات الإجتماعية و غيره.
فالشعوب التي تطبق الديموقراطية في زمننا الحاضر و لديها مستوى عالي من الدخل و المعيشة و حقوق الإنسان .. تعبت و إجتهدت حتى وصلت إلي ما هي فيه الآن. و هي لم تصل إلي ما وصلت إليه بالديموقراطية و أخذ رأي الشعب و الإحتكام لرغباته .. بل بقيادة حازمة لها ما لها و عليها ما عليها, بنخبة متفوقة تستطيع التعامل مع المعلومات و البيانات و إنتاج أفضل القرارات الممكنة. لكن المنبهرين بالدعايات الغربية يريدون لبلدانهم مستوى الدخل الأمريكي بدون تعب و إجتهاد و معاناة و تطور الأمريكان !! يظنونها سهلة أو أن الديموقراطية تشفي من جميع الأمراض مثل السحر, و بنفس المنطق الرأسمالي الذي يتصور أن قوى العرض و الطلب في السوق تميل دائما إلي التوازن على ما هو صحيح بعد فترة .. كذلك السوق السياسية تميل إلي التوازن على عقد إجتماعي مقبول من الجميع بعد فترة. و نحن نعرف طبعا حال السوق في أعتى الدول الرأسمالية .. بري و منفلت و فوضوي و لا يمكن السيطرة عليه أبدا و علم الفوضى يشهد بذلك.
الخاتمة
المسألة ليست مستبد عادل و مستبد ظالم, بل هي حقوق و واجبات: كل إنسان لديه حق في الحياة و حق في الموارد و حق في التعليم و حق في الحصول على فرص لتحقيق أي شئ طالما لم يتعدى على حقوق المجتمع. لكن الحقوق السياسية ليست حقوق أصلا, بل هي واجبات على من يملك القدرة فقط .. الحق في الإنتخاب ليس حقا بل هو واجب على العالمين المتخصصين فقط, بالضبط كالحق المزعوم في تداول السلطة. أنا من حقي السكن و المأكل و الملبس, لكن ليس من حقي أن أورط أمة بأكملها في إختيارات سياسية فاسدة بإستخدام صوتي الإنتخابي الذي أوظفه بكل جهل و غباء ضد مصلحة الأمة التي أعيش بينها.
لذلك فالصراع دائما هنا بين ما هو صحيح و بين ما هو شعبي, و غالبا لا يكون ما هو صحيح شعبيا و لا ما هو شعبي صحيحا. كان الإلحاد هو أول و أوضح درس في ذلك ثم توالت الدروس, و لو إخترنا الشعبي برغم إنف الصحيح فلا نلومن إلا أنفسنا.
ثم إن الديموقراطية بمعنى حكم الشعب خرافية و مستحيل تحققها من الأساس, لا توجد دولة ديموقراطية واحدة في العالم. و أمريكا (و غيرها) دولة استبدادية مثلها مثل غيرها, لكن الأمريكان محترفين في صنعة تغييب الشعوب و السيطرة عليها .. سواء بتفوقهم في مجالات التسويق و الدعاية و الإعلان الإقتصادي أو السياسي. الفرق الوحيد بين نظام مثل النظام النازي الألماني و نظام مثل النظام الأمريكي هو نفس الفرق بين السرقة بالإكراه و السرقة بالنصب : في الحالة الأولى السرقة واضحة و تستخدم العنف و الشرطة ستلاحقك حتى تأتي بك .. في الحالة الثانية أنت من يلح على اللص حتى يأخذ مالك و في النهاية القانون لا يحمي المغفلين. في أمريكا رئيس الجمهورية يتم تعيينه من قبل كبار الرأسماليين و رؤساء مجالس الإدارات لشركات السلاح و الطاقة الكبرى, فهؤلاء الأغنياء يختارون المرشح الديموقراطي كما يختارون المرشح الجمهوري .. ثم يمولون و يدعمون و يسلطوا الضوء الإعلامي على الإثنين حتى يختار الشعب واحد من الإثنين في عرس ديموقراطي رائع. و في النهاية أي ناجح منهم هو تابع لهم و الحكومة ملكهم و نواب المجالس النيابية في جيبهم و البلد بلدهم.
أكيد أن فكرة الديموقراطية هي خطأ نظريا و يستحيل تطبيقها عمليا: و حكم الشعب لنفسه نظريا معناه ضياع الدولة و إنحطاط المجتمع .. لأن الشعب لا يفكر إلا بمعدته و بجهازه التناسلي. و هي مستحيلة من حيث التطبيق لأن الحرية خرافة و المساواة خرافة, و الناس محكومين بكل شيء و يتفاوتون في المواهب و القدرات .. بما يعني أن الديموقراطية ستؤدي لان يتحكم الغني في الأقل منه غنى و أن يستغل الذكي الأقل منه ذكاء و ان يوجه المتعلم في الأقل منه تعليما .. الخ. و في ظل بشر متفاوتون في المزايا و العيوب لن يحدث أبدا أن تتحقق المساواة أو الديموقراطية عمليا, بل ستكون مجرد أكاذيب و نفاق. الطبقية قدر في كل الأحوال, جزء من نسيج الطبيعة الديناميكية اللامثالية نفسها .. لذلك إما أن نختار نحن أي طبقة و أي نخبة هي المنوط بها أن تقود المجتمع, و وفق أي قواعد و حقوق .. أو تختار لنا الطبيعة النخبة الجشعة الشرهه للمزيد من المال و النفوذ لكي تتحكم في المجتمع لصالح منافعها الخاصة.
|