|
تأثير داروين في الفكر الحديث(*)
تصوغ عقول كبيرة فكر المراحل التاريخية المتعاقبة . فقد أزكى لوثر
وكالفن حركةَ الإصلاح الديني، وبعث لوكيه ولايبنتز وڤولتير وروسّو
حركة التنوير الفلسفية. أما الفكر الحديث فإنه أكثر ما يعتمد على تأثير
تشارلز داروين.
من الواضح أن تصورنا للعالم وموقعنا فيه مع إطلالة القرن الحادي والعشرين يختلف بشدة عن الطابع العقلاني والأخلاقي والثقافي لبداية القرن التاسع عشر. بيد أنه لا يوجد اتفاق جماعي حول سبب هذا التغير الثوري. فكثيرا ما ورد اسم <كارل ماركس>، وبرز اسم <سيگموند فرويد> (استحسانا واستهجانا)، وطرح <أبراهام پايس> [كاتب سيرة <ألبرت آينشتاين>] ادعاءه الحماسي بأن نظريات آينشتاين «غيّرت تغييرا عميقا طريقة تفكير الناس العصريين رجالا ونساء حول ظواهر الطبيعة الجامدة.» ولكن پايس سرعان ما تبين له ما انطوى عليه قوله من مبالغة، فكتب قائلا: «يجدر بنا في الواقع أن نقول «العلماء العصريون» بدل قولنا «الرجال والنساء العصريون»، لأن المرء بحاجة إلى تعلم الأسلوب الفيزيائي للفكر وإلى التدرب على التقانات الرياضياتية إذا ما أراد تقدير إسهامات آينشتاين بكمالها. وفي الحقيقة، إن مثل هذا التقييد يصح على جميع النظريات الرائعة للفيزياء الحديثة التي لم تترك وقعا كبيرا في طريقة فهم الإنسان العادي للعالم من حوله.
يختلف الموقف إلى حد مثير فيما يخص مفاهيم البيولوجيا. فالعديد من الأفكار البيولوجية التي جرى طرحها في غضون السنوات المئة والخمسين المنصرمة، عارضت بقوة ما كان يعتبره جميع الناس صحيحا، بحيث تطلّب قبولَ هذه الأفكار ثورة أيديولوجية. ومن بين جميع البيولوجيين، يتحمل <تشارلز داروين> القدر الأكبر من المسؤولية عن إحداث أكثر التعديلات وأعمقها في النظرة السائدة لدى الناس العاديين.
لقد تعددت منجزات داروين وتنوعت بحيث صار من المفيد تمييز ثلاثة مجالات قدم فيها إسهامات رئيسية وهي: البيولوجيا التطورية، وفلسفة العلوم، والاتجاهات العقلية والثقافية والأخلاقية الحديثة modern zeitgeist. ومع أنني سأركز على هذا القطاع الأخير، فسأقدم ـ توخيا للكمال ـ لمحة شاملة قصيرة عن إسهامات داروين في المجالين الأولين، لا سيما أنها تنبئ بأفكاره اللاحقة.
نظرة علمانية عن الحياة(1)
أسس داروين فرعا جديدا من علوم الحياة هو البيولوجيا التطورية. وحظيت أربعة من إسهاماته في البيولوجيا التطورية بأهمية خاصة، إذ تجاوز أثرها كثيرا حدود علوم الحياة. ويتمثل أول هذه الإسهامات في مبدأ عدم ثبات الأنواع nonconstancy of species، أو المفهوم الحديث للتطور نفسه. أما الإسهام الثاني فيتمثل في فكرة التطور المتفرع branching evolution التي تعني ضمنا التحدر المشترك لجميع أنواع الكائنات الحية على الأرض من أصل واحد فريد. فقد كانت جميع الاقتراحات التطورية حتى عام 1859 (مثال ذلك ما اقترحه عالِم الطبيعيات <B .J. لامارك> Lamarch) تؤيد مبدأ التطور الخطي linear evolution الذي يقول بالمسيرة الغَرَضِيّة (الغائية) نحو الكمال الأكبر، وهو ما كان رائجا منذ المفهوم الأرسطوطالي عن سلم الارتقاء الطبيعي Scala Naturae، بمعنى سلسلة الوجود chain of being. فقد ذكر داروين أن التطور لا بد أن يكون متدرجا من دون فرجات أو انقطاعات رئيسية. وانتهى داروين أخيرا إلى المُحاجَجَة بأن آلية التطور إنما تمثلت بالانتقاء (الانتخاب) الطبيعي natural selection.
لقد شكلت هذه التبصرات الأربعة قاعدةً لتأسيس داروين فرعا جديدا من فلسفة العلوم، هو فلسفة البيولوجيا. فعلى الرغم من مرور قرن من الزمن قبل أن يكتمل تطور هذا الفرع الجديد من فروع الفلسفة، فإن شكله النهائي يقوم على المفاهيم الداروينية. ويُذكر على سبيل المثال أن داروين أدخل الجانب التاريخي إلى صلب العلوم. فالبيولوجيا التطورية، على النقيض من الفيزياء والكيمياء، تُعد علما تاريخيا؛ بمعنى أن علماء التطور يحاولون شرح الأحداث والسيرورات التي سبق أن حدثت في الماضي. فالقوانين والتجارب ليست تقنيات ملائمة لتفسير مثل هذه الأحداث والسيرورات؛ بل، عوضا عن ذلك، ينبغي صياغة قصة تاريخية historical narrative تشكل تصورا مؤقتا للسيناريو الخاص الذي قاد إلى الأحداث التي نحاول تفسيرها.
فعلى سبيل المثال، جرى اقتراح ثلاثة سيناريوهات مختلفة للانقراض المفاجئ للدينوصورات في نهاية العصر الكريتاسي، تتمثل في: حدوث وباء مدمر، أو تغير مناخي كارثي، أو تأثير كويكب asteroid وهو ما يُعرف بنظرية ألڤاريز Alvarez theory. أما الاثنان الأولان من هذه السيناريوهات، فقد تم دحضهما في النهاية بأدلة لا تتوافق معهما. بيد أن الحقائق المعروفة تلائم نظرية ألفاريز التي تحظى الآن بقبول واسع. ويفيد اختبار القصص التاريخية ضمنا بأن الهوَّة الواسعة بين العلوم والإنسانيات، التي أقلقت الفيزيائي <P .C. سنو> Snow إلى حد كبير، لا وجود لها من الناحية الفعلية. وهكذا فإن البيولوجيا التطورية ـ استنادا إلى منهجيتها وإلى قبولها عامل الزمن الذي يجعل التغير أمرا ممكنا ـ تمثل جسرا فوق الهوة التي تفصل بين العلوم والإنسانيات.
إن اكتشاف الانتقاء (الانتخاب) الطبيعي من قبل داروين و<R .A. والاسWallace > يجب أن يعد في حد ذاته إنجازا فلسفيا رائعا. وقد بقي هذا المبدأ مجهولا طوال ما ينوف على الألفي عام من تاريخ الفلسفة التي امتدت من عهد الإغريق حتى أيام <هيومHume > و<كانتْ> Kant والعصر الڤكْتوري. وقد حظي مفهوم الانتقاء الطبيعي بقوة لافتة للنظر في تفسير التغيرات التوجيهية directional والتكيّفية adaptive؛ أما طبيعته فإنها البساطة نفسها، إذ إنه لا يمثل قوة ملزمة تشبه القوى الموصوفة في قوانين الفيزياء، بل إن آليته لا تتعدى استئصال الأفراد المتدنين inferior، الأمر الذي حمل الفيلسوف <H. سپنسر> Spencer الذي عاصر داروين، على وصف التطور بالعبارة الشائعة اليوم: «البقاء للأصلح». (ولطالما تعرّض هذا الوصف للتهكّم باعتباره استدلالا حلقيا(2) من مثل: «ومن هم الأصلح؟ إنهم أولئك الذين يتمكنون من البُقْيا.» وفي الحقيقةِ، إن التحليل المتأني يستطيع عموما أن يحدد سبب إخفاق بعض الأفراد بالعيش في ظل مجموعة معينة من الظروف).
يتمثل الإنجاز الحقيقي البارز لمبدأ الانتقاء الطبيعي في أنه يستبعد اللجوء إلى المسببات النهائية final causes، بمعنى أنه يستبعد ضرورة وجود قوى غائية (غرضية) teleological forces تقود إلى نهاية معينة. ففي الحقيقة، لا شيء محددا سلفا. وعلاوة على ذلك، فقد يصل الأمر حتى إلى إمكانية تغير هدف الانتقاء من جيل إلى آخر في حال تغير الظروف البيئية.
إن وجود جماعة إحيائية متنوعة يُعد ضرورة كي يعمل الانتقاء الطبيعي كما ينبغي. (وقد عَنَى نجاح داروين أن التيپولوجيين (النمطيين) typologists الذين يعتبرون أن جميع أفراد الطائفة class الواحدة من الكائنات الحية يكونون متماثلين من الناحية الأساسية، باتوا من دون دعم لوجهة نظرهم). ونظرا لأهمية التبدل variation، فإنه ينبغي اعتبار الانتقاء الطبيعي سيرورة ذات خطوتين تتمثلان في إحداث تبدل وافر يتبعه استئصال للأفراد المُتدنين. والخطوة الأخيرة خطوة توجيهية directional. وهكذا حسم داروين عبر تبنّيه مبدأ الانتقاء الطبيعي جدلا استمر بين الفلاسفة بضعة آلاف من السنين حول المصادفة chance والضرورة necessity. وما التغير على كوكب الأرض إلا نتيجة للمصادفة والضرورة، حيث تغلب العشوائية randomness على الأولى وتغلب الضرورة على الثانية.
لقد كان داروين ذا نظرة شمولية. فبالنسبة إليه كان موضوع الانتقاء أو هدفه هو الفرد ككل، أما علماء الوراثة فقد آثروا منذ بداية عام 1900 تقريبا اعتمادَ النزعة الاختزالية واعتبار الجينة (المورثة) هي المستهدفة بالتطور. ولكنهم في السنوات الخمس والعشرين الماضية عادوا إلى النظرية الداروينية التي تعتبر الفرد هو المستهدف الرئيسي.
وعلى مدى ثمانين عاما بعد عام 1859 ثار تعارض مرير حول اعتبار أي من النظريات المتنافسة الأربع هو الصحيح. فنظرية التطافر Transmutation تتحدث عن تأسيس نوع حي جديد أو نمط جديد عبر طفرة مُفردة، أو انتقال قفزي saltation؛ أما نظرية النشوء الوتيري orthogenesis فترى أن ما قاد إلى التحوّل transformation هو نزعات غائيّة داخلية؛ في حين استندت نظرية التطور اللاماركي(3) إلى وراثة الخاصيات المكتسبة. والآن هناك نظرية التطور التبدلي الدارويني عبر الانتقاء الطبيعي. وبرزت نظرية داروين بوضوح على أنها المنتصرة أثناء مرحلة الاصطناع (التركيب) التطوري evolutionary synthesis في الأربعينات من القرن العشرين حينما تزاوجت الاكتشافات الجديدة في علم الوراثة مع الملاحظات التصنيفية(4) (التي تخص علم التصنيف(5) systematics). ويكاد يجمع اليوم التطوريون المرموقون على قبول الداروينية. يضاف إلى ذلك أن الداروينية صارت مكوِّنا أساسيا في الفلسفة الجديدة للبيولوجيا.
وهناك مبدأ يُعد الأهم في الفلسفة البيولوجية الحديثة ظل غير معروف إلى ما بعد مرور قرن تقريبا على نشر بحث داروين: حول أصل الأنواع On the Origin of Species، ويتمثل في الطبيعة المزدوجة للسيرورات البيولوجية. فهذه الفعاليات تحكمها القوانين الشاملة للفيزياء والكيمياء، كما يحكمها أيضا برنامج جيني (هو نفسه نتيجة للانتقاء الطبيعي) صاغ النمط الوراثي genotype على مدى ملايين الأجيال. ويعد العامل السببي causal factor لامتلاك البرنامج الجيني سمة فريدة للكائنات الحية، وينعدم كلية في العالم اللاحي. ولم يكن داروين يعي هذا العامل الأساسي، بسبب الحالة المتخلِّفة التي كانت عليها المعرفة الجزيئية والجينية في زمانه.
وهناك جانب آخر للفلسفة الجديدة في البيولوجيا يتعلق بدور القوانين. فالقوانين تفسح المجال لمفاهيم في الداروينية. وفي العلوم الفيزيائية عادة ما تُبنى النظريات على القوانين؛ فعلى سبيل المثال قادت قوانين الحركة إلى نظرية التثاقل gravitation. أما في البيولوجيا التطورية فغالبا ما تُبنى النظريات على مفاهيم مثل التنافس competition والاختيار الأنثوي female choise والانتقاء والتعاقب succession والسيادة dominance. ولا يمكن اختزال هذه المفاهيم البيولوجية والنظريات المبنية عليها إلى قوانين العلوم الفيزيائية ونظرياتها. لم يشرح داروين نفسُه هذه الفكرة بوضوح قط. وإن تأكيدي أهمية داروين في الفكر الحديث يأتي نتيجة لتحليلي النظرية الداروينية على مدى القرن المنصرم. ففي هذه الفترة حدث تبدل واضح في منهجية (ميثودولوجية) البيولوجيا. صحيح إن هذا التحول لم يسببه داروين حصرا، ولكنه تعزز جدا بالاكتشافات المثمرة في البيولوجيا التطورية، إذ غدت الملاحظة والمقارنة والتصنيف وكذلك اختبار القصص التاريخية المتنافسة، هي طرائق البيولوجيا التطورية، وفاقت بذلك الأسلوب التجريبي.
أنا لا أدَّعي أن داروين كان مسؤولا وحيدا عن جميع الإنجازات الفكرية في هذه الفترة، إذ كان الكثير منها من مثل دحض جبرية (حتمية) determinism عَالِم الرياضيات والفيزياء الفرنسي <S .P. لاپلاس> يلوح في الأفق. ولكن داروين استطاع في معظم الحالات أن يحقق أسبقية أو أن يعزز الآراء الجديدة على نحو أكثر نشاطا.
طابع العصر الدارويني
إن إنسان القرن الحادي والعشرين ينظر إلى العالَم نظرة تختلف تماما عن نظرة إنسان العهد الڤكتوري. ويرتكز هذا التحول على أسباب متعددة، وبخاصة الاكتشافات المذهلة في التقانة. ولكن الأمر الذي لم يحظ بالتقدير الكامل هو مدى أهمية آراء داروين في إحداث هذا التحول في التفكير.
دعونا نتذكر أن جلّ العلماء والفلاسفة البارزين في عام 1850 كانوا رجالا مسيحيين، وكان العالم الذي يعيشون فيه من صنع الله الذي يرون أنه وضع قوانين حكيمة حققت التكيف التام لجميع الكائنات الحية بعضها مع بعض من جهة ومع بيئاتها من جهة أخرى. وفي الوقت نفسه كان مهندسو الثورة العلمية قد كونوا صورة للعالم مبنية على المذهب الفيزيائي physicalism 6، وعلى المذهب الغائي والجَبْرية ومبادئ أساسية أخرى غيرها. هكذا كان تفكير الإنسان الغربي قبل نشر بحث داروين عام 1859 «حول أصل الأنواع». وكان لابد للمبادئ الأساسية التي اقترحها داروين من أن تواجه صراعا شاملا مع هذه الأفكار السائدة.
فمن ناحية أولى، ترفض الداروينية جميع الظواهر والمسبِّبات فوق الطبيعية supernatural. وتفسِّر نظريةُ التطور حسب مبدأ الانتقاء الطبيعي موضوعَ التلاؤم adaptedness والتنوع diversity في العالم على نحو مادي حصرا. لقد لفت داروين النظر إلى أن الخلق، حسبما جاء في النصوص التي تتحدث عن الخلق في مختلف الثقافات، تعارضه تقريبا كل ناحية من نواحي العالَم الطبيعي. فكل جانب من جوانب «التصميم المدهش» الذي يُجِلُّه اللاهوتيون الطبيعيون إلى حد كبير يمكن أن يجد تفسيرا له في الانتقاء الطبيعي. وكذلك تكشف النظرة المتأنية أن هذا التصميم كثيرا ما لا يكون مدهشا جدا [انظر: «التطور وأصول الأمراض»، مجلة العلوم، العددان 8/9(1999)، ص 82]. ووجهة نظر داروين حول الخلق فسحت المجال لتفسيرات علمية بحتة لجميع الظواهر الطبيعية، وأدت إلى نشوء مذهب الواقعية positivism، كما ابتعثت ثورة فكرية وروحانية دامت تأثيراتها حتى يومنا هذا.
ومن ناحية ثانية ترفض الداروينية فكرة التيپولوجيا (التنميط) typology. فمنذ زمن فيثاغورس وأفلاطون، يؤكد المفهوم العام للتنوع في العالم على اللاتبدل invariance والثبات stability. ويطلق على وجهة النظر هذه اسم مذهب التيپولوجيا أو الماهِيَّوية (الجوهرية) essentialism. فالتنويع الظاهري، حسبما كان يقال، يتألف من عدد محدَّد من الأصناف الطبيعية (ماهيات essences أو أنماط types) يشكل كل منها طائفة (صنفا). وكان يُعتقد بأن أفراد كل طائفة تكون متماثلة وثابتة، كما تكون واضحة الانفصال عن أفراد الماهيات الأخرى.
وعلى النقيض من ذلك، فإن التبدل variation يكون عَرَضيا وغير جوهري. ويمكن أن يوضح مثلث موضوعَ الماهيّوية (الجوهرية): فجميع المثلثات تمتلك الخصائص الأساسية ذاتها وتتميز بوضوح عن رباعيات الزوايا quadrangles والأشكال الهندسية الأخرى. ولا يمكن تصور شكل انتقالي بين المثلث والمربع. وبناء على ذلك لا يقوى التفكير التيپولوجي (التنميطي) على تقبل التبدل، كما أنه يقود إلى مفهوم مضلِّل عن الأعراق races البشرية. فالقوقازيون والأفارقة والآسيويون والإسكيمو هم بالنسبة إلى التيپولوجي أنماط تختلف جليا عن المجموعات الأثنية ethnic البشرية الأخرى. ويؤدي هذا النمط في التفكير إلى العنصرية racism. (ومع أن التطبيق الجاهل لنظرية التطور تحت اسم «الداروينية الاجتماعية» كثيرا ما يُعاب عليه أنه يبرر العنصرية، فإن التقيد بالماهيّوية ـ التي ثبت بطلانها والتي سبقت داروين ـ يمكن أن تفضي في الحقيقة إلى وجهة نظر عنصرية).
لقد رفض داروين الفكر التيپولوجي تماما، وقدم عوضا عن ذلك مفهوما يختلف عنه كلية يطلق عليه الآن اسم فكر الجماعات population thinking. فكل تجمعات الكائنات الحية، بما في ذلك التجمع البشري، تمثل جماعات تتألف من أفراد تختلف فيما بينها على نحو فريد، بحيث لا يتماثل فردان من البلايين الستة من البشر. ولا تختلف الجماعات في ماهياتها بل بمتوسط الفروق الإحصائية. ومن خلال رفضه مبدأ ثبات الجماعات، تمكّن داروين من إدخال التاريخ في التفكير العلمي ومن تعزيز مقاربة جديدة تماما للتأويل التفسيري في العلم.
ومن ناحية ثالثة جعلت نظرية داروين في الانتقاء الطبيعي أي محاولة لابتغاء الغائية (الغرضية) أمرا لا لزوم له. فمنذ أيام الإغريق وما تلاها ساد اعتقاد شامل بوجود قوة غائية في العالم تقود المسير المتعاظم نحو الكمال. وكان هذا «المسبب النهائي» واحدا من الأسباب التي خصها أرسطو. وبعد محاولة كانْت غير الناجحة (في مؤلَّفه Critique of Judgment) في وصف الظواهر البيولوجية بالاستعانة بالتفسير الفيزيائي النيوتوني، عمد لاحقا إلى التماس القوى الغائية. وحتى بعد عام 1859 استمر اعتبار التفسيرات الغائية (أو النشوء الوتيري) أمرا مألوفا جدا في البيولوجيا التطورية. لقد كان قبول سلم الارتقاء الطبيعي Scala Naturae والتفسيرات اللاهوتية الطبيعية شواهد أخرى على رواج الغائية، ولكن الداروينية أطاحت بمثل هذه الاعتبارات.
(إن الصفة «غائية» teleological تنطبق على عدة ظواهر مختلفة. فالعديد من السيرورات ذات النهاية المحدَّدة ظاهريا في الطبيعة اللاعضوية تأتي نتيجة لقوانين طبيعية فحسب، مثال سقوط حجر أو تَبَرُّد قطعة ساخنة من المعدن بسبب قوانين فيزيائية وليس نتيجة سيرورة موجهة النهاية end-directed. أما السيرورات التي تحدث في الكائنات الحية فتدين بتوجُّهها الغرضي الظاهر إلى تشغيل برنامج جيني فطري أو مكتسب. فقد تشترك أجهزة متكيفة مثل القلب والكلى في فعاليات يمكن اعتبارها تنشد هدفا ما، ولكن هذه الأجهزة نفسها اكتُسبت أثناء التطور واستمر أداؤها بالتحسن عبر الانتقاء الطبيعي. وأخيرا، كان هناك إيمان بوجود غائية كونية cosmic teleology تَنْسِب غرضا وهدفا مسبق التحديد لكل شيء في الطبيعة. ولكن العلم الحديث لا يمكنه إقامة الدليل على وجود أية غائية كونية كهذه).
ومن ناحية رابعة، ينفي داروين مذهب الجبريّة. كان لاپلاس قد تبجّح بأن المعرفة الكاملة للعالم الحالي وسيروراته كلها ستمكِّنه من التنبؤ بالمستقبل حتى اللانهاية. أما داروين فقد قبل مبدأ شمولية العشوائية والمصادفة طوال سيرورة الانتقاء الطبيعي. (وقد وصف العالم الفلكي والفيلسوف <J. هرشيل> Herschel الانتقاء الطبيعي بازدراء بأنه «قانون يخلط الحابل بالنابل»). أما كون المصادفة يجب أن تؤدي دورا رئيسيا في السيرورات الطبيعية فكان فكرة غير مستساغة لدى العديد من الفيزيائيين. وقد عبّر آينشتاين عن عدم الاستساغة هذا في قوله: «إن الله لا يلعب النرد(7).» ونشير بالطبع، حسبما ذكرنا آنفا، إلى أن الخطوة الأولى فحسب في الانتقاء الطبيعي ـ أي إحداث التغير ـ هي التي تكون موضوع المصادفة. أما الخطوة التالية، التي تتمثل في الانتقاء الفعلي، فلا بد أن تكون توجيهية directional.
وعلى الرغم من المقاومة المبدئية من طرف الفيزيائيين والفلاسفة، فإن دور الاحتمال والمصادفة في السيرورات الطبيعية يحظى الآن بالاعتراف الشامل تقريبا. فالعديد من البيولوجيين والفلاسفة ينكرون وجود قوانين شاملة في البيولوجيا ويرون تفسير جميع النظاميات regularities بلغة الاحتمالات مادامت هناك استثناءات تقريبا لجميع ما يسمى بالقوانين البيولوجية. ولهذا فإن اختبار التزييف test of falsification المشهور العائد لفيلسوف العلوم <K. پوپر> Popper لا يصح في هذه الحالات.
ومن ناحية خامسة، طور داروين نظرة جديدة للبشرية، وبها يكون قد أوجد مركزية بشرية anthropocentrism جديدة. فمن بين جميع مقترحات داروين، تُعد صحة انطباق نظرية التحدر المشترك common descent على الإنسان أصعب مقترح حظي بقبول معاصريه؛ إذ إن اللاهوتيين والفلاسفة على حد سواء كانوا يعتبرون الإنسان مخلوقا يسمو فوق الكائنات الحية الأخرى وينفصل عنها. وقد توافق أرسطو وديكارت وكانْت على هذا الرأي بغض النظر عن تباعد تفكيرهم فيما عدا ذلك. أما البيولوجيان <Th. هكْسليHuxley > و<E. هِيكِلHaechel > فقد كشفا عبر دراسات دقيقة في التشريح المقارَن بأن البشر والقرود الحية لهما ـ بكل وضوح ـ سلف مشترك، وهو أمر لم يعد محل شك في العلم بعد ذلك على الإطلاق. إن انطباق نظرية التحدر المشترك على الإنسان حرم هذا الأخير من منزلته السابقة الفريدة.
ومن العجيب مع ذلك أن هذه الأحداث لم تفض إلى نهاية للمركزية البشرية. فقد أظهرت دراسة الإنسان أنه، على الرغم من تحدره descent، فريد بالفعل بين جميع الكائنات الحية. فالذكاء البشري لا يضاهيه ذكاء أي من المخلوقات الأخرى. والبشر هم الكائنات الوحيدة التي تمتلك لغة حقيقية (بما في ذلك قواعد النحو والصرف وبناء الجمل). وكما أكد داروين فإن البشرية وحدها أوجدت منظومات قيم أخلاقية حقيقية. يضاف إلى ذلك أن الإنسان عبر الذكاء واللغة الراقيين والرعاية الوالدية الطويلة، يعد المخلوق الوحيد الذي أبدع ثقافة غنية. وعبر هذه الوسائل توصلت البشرية (لحسن المقادير أو سوئها) إلى تحقيق سيادة غير مسبوقة على كامل الكرة الأرضية.
ومن ناحية سادسة فقد هيأ داروين أساسا علميا للأخلاق. فكثيرا ما يثار السؤال وعادة ما ينكفئ(8)، حول ما إذا كان التطور يفسر، على نحو كاف، القيم البشرية الأخلاقية السليمة. فالكثير يتساءلون: إذا كان الانتقاء لا يثيب الفرد إلا عن السلوك الذي يعزز نجاحه البُقْيَوي survival والتكاثري reproductive، فكيف تستطيع مثل هذه الأنانية الصرفة أن تفضي إلى أية قيم أخلاقية سليمة؟ ونشير هنا إلى أن الأطروحة الداروينية الاجتماعية الواسعة الانتشار التي روّجها سپنسر في نهاية القرن التاسع عشر، هي أن التفسيرات التطورية كانت تتعارض مع نماء القيم الأخلاقية.
ولكننا اليوم نعرف أنه، بالنسبة إلى الكائن الاجتماعي، يجب اعتبار المجموعة الاجتماعية بتمامها، وليس الفرد لوحده، هدفا للانتقاء. وقد طبق داروين هذه الفكرة على النوع البشري في عام 1871 في مؤلَّفه تحدّر الإنسان The Descent of Man. فَبُقْيا مجموعة اجتماعية ما وازدهارها يعتمدان على مدى التعاون المتناغم بين أفراد تلك المجموعة، ويجب أن يُبنى هذا السلوك على الإيثار (الغيرية) altruism. ويَخدم مثل هذا الإيثار كذلك، عبر زيادة بقيا المجموعة وازدهارها، لياقةُ أفراد المجموعة بشكل غير مباشر، إذ ترقى النتيجة إلى اعتبار أن الانتقاء يدعم السلوك الإيثاري (الغيري).
إن انتقاء الأقارب والعون المتبادل بخاصة يحظيان بالتقدير إلى حد كبير في المجموعة الاجتماعية. وقد أمكن في السنوات الأخيرة إثبات شيوع مثل هذا النزوع نحو الإيثار لدى عديد من الحيوانات الاجتماعية الأخرى. وهكذا ربما يستطيع المرء أن يلخص العلاقة بين الأخلاق والتطور بقوله إن الانتقاء الطبيعي يبارك النزوع إلى الإيثار والتعاون المتناغم في المجموعات الاجتماعية. أما الأطروحة القديمة للداروينية الاجتماعية، بمعنى الأنانية الضيقة، فقد تأسست على الفهم المنقوص لسلوك الحيوانات ولا سيما الأنواع الاجتماعية منها.
تأثير المفاهيم الجديدة
دعوني أحاول الآن أن ألخِّص مكتشفاتي الرئيسية. فلم يعد هناك إنسان مثقف يشك في صحة ما يسمى نظرية التطور التي نعتبرها اليوم حقيقة محضة. وكذلك، فقد تأكدت معظم أطروحات داروين الخاصة، كتلك التي تتعلق بالتحدّر المشترك وَتَدرُّج التطور، وبنظريته التوضيحية للانتقاء الطبيعي.
آمل أن أكون قد نجحت في إيضاح الآفاق الواسعة لأفكار داروين. أجل، فقد أسس داروين فلسفة في البيولوجيا أدخل فيها عامل الزمن وأوضح فيها أهمية الاحتمال والعَرَضيّة(9). كما أظهر أن نظريات البيولوجيا التطورية تُبنى على مفاهيم أكثر مما تبنى على قوانين. غير أنه إضافة إلى ذلك، ربما كان أعظم إسهامات داروين إيجاده مجموعة من المبادئ الجديدة التي تؤثر في تفكير كل شخص وتتمثل في: أن العالم الحي يمكن شرحه من خلال التطور من دون اللجوء إلى ما فوق الطبيعة supernaturalism؛ وأن مذهب الماهيوية أو التيپولوجيا (التنميط) غير صحيح ولا بد لنا أن نتبنى تفكير الجماعات الذي يقول بتفرد جميع أعضاء الجماعة (وهو أمر حيوي بالنسبة إلى التعليم ولرفض العنصرية)؛ وأن الانتقاء الطبيعي (وفق نظرية داروين)، إذا ما طُبِّق على المجموعات الاجتماعية، كاف بحق لتعليل نشوء القيم الأخلاقية الغيرية واستمراريتها؛ وأن الغائية الكونية باعتبارها سيرورة ذاتية تقود الحياة تلقائيا نحو كمال متعاظم هي (وفق نظرية داروين) شعار باطل؛ إذ إن جميع ما يبدو لنا كظواهر غائية يمكن تفسيره عبر سيرورات مادية بحتة؛ وأن مذهب الجبرية(10) ـ بناء على ما تقدم ـ ينتفي، الأمر الذي يضع مصائرنا في أيدينا المتطورة.
وإذا ما استعرنا عبارة داروين، فهناك عظمة في هذه النظرة للحياة، إذ أدت، ومازالت تؤدي، إلى ظهور أساليب جديدة في التفكير. وتكاد تكون جميع المكونات في منظومة معتقدات الإنسان الحديث قد تأثرت على نحو أو آخر بالمبادئ الداروينية.
المؤلف
Ernest Mayr
هو من الشخصيات الشامخة في تاريخ البيولوجيا التطورية. فبعد تخرجه في جامعة برلين عام 1926، أزكت رحلاتُه العلمية إلى غينيا الجديدة لدراسة علم الطيور اهتماماتِه في البيولوجيا التطورية النظرية. وفي عام 1931 هاجر إلى الولايات المتحدة، وفي عام 1953 انضم إلى الهيئة التدريسية في جامعة هارڤارد، وهو الآن أستاذ فخري لكرسي ألكساندر أگاسيز في علم الحيوان بهذه الجامعة. وقد شكّل تصوره عن النشوء السريع للأنواع لدى الجماعات الأحيائية المنعزلة أساسَ المفهوم المشهور في حقل التطور الحديث المعروف باسم التوازن المتقطع punctuated equilibrium. وقد نال ماير العديد من الجوائز بما فيها الميدالية القومية للعلوم، تقديرا لمؤلفاته التي ضمت عددا من المجلدات ذات الأثر الأكبر في مجال التطور في القرن العشرين. وهذه المقالة مقتبسة من محاضرة ألقاها ماير في 23/9/1999 باستكهولم لدى تسلمه جائزة كرافوورد من الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم.
مراجع للاستزادة
DARWIN ON MAN: A PSYCHOLOGICAL STUDY OF SCIENTIFIC CREATIVITY. Second edition. Howard E. Gruber. University of Chicago Press, 1981.
ONE LONG ARGUMENT: CHARLES DARWIN AND THE GENESIS OF MODERN EVOLUTIONARY THOUGHT. Ernst Mayr. Harvard University Press, 1993.
CHARLES DARWIN: VOYAGING: A BIOGRAPHY. Janet Browne. Princeton University Press, 1996.
THE DESCENT OF MAN. Charles Darwin. Popular, current edition. Prometheus Books, 1997.
THE ORIGIN OF SPECIES. Charles Darwin. Popular current edition. Bantam Classic, 1999.
Scientific American, July 2000
(*) Darwin's Influence on Modern Thought
(1) A Secular View of Life
(2) circular reasoning: استدلال يدور في حلقة مفرغة.
(3)Lamarchian evolution
(4) taxonomic
(5) وهو فرع المعرفة الذي يختص بتصنيف الكائنات الحية استنادا إلى صلات قرابتها. (التحرير)
(6) الذي يختزل العالَم إلى أشياء زمانية-مكانية أو أحداث أو خواصها. (التحرير)
(7) God does not play dice
(8) rebuffed
(9) contingency
(10) determinism
|