|
هل قرأت عن فتى الأدغال (ماوكلي) ؟
مجموعة قصصية اسمها “كتاب الأدغال” أصدرها سنة 1894 الكاتب و الشاعر البريطاني “رديارد كيبلينج Rudyard Kipling” و حكى فيها عن الطفل ماوكلي الذي عاش في كنف الحيوانات الطيبة (النمر الأسود و صديقه الدب) بمساعدة الذئاب أيضا فقد أخذت عائلة من الذئاب ماوكلي لتربيته بين إخوته الذئاب الصغار.
طرزان أيضا هو شخصية خيالية ظهرت لأول مرة في أكتوبر 1912 في رواية “طرزان القردة” للمؤلف الأمريكي “إدغار رايس بوروس Edgar Rice Burroughs”. و حسب الرواية فإن طرزان واسمه الحقيقي هو “جون كلايتون”، هو ابن أحد النبلاء البريطانيين، وكان والداه على متن سفينة بالقرب من سواحل أفريقيا وقد ثار البحارة على قبطان ذلك السفينة واندلعت أعمال شغب وفوضى انتهت بانجراف واستقرار السفينة على الساحل الإفريقي. وبعدها يموت والدا جون كلايتن وهو رضيع، ويقوم قرد ضخم الحجم من نوع مانجاني برعايته ويتم إطلاق اسم طرزان عليه والذي يعني ذو البشرة البيضاء في لغة القردة.
لا يحتاج المرء للقول أن القصتان خياليتان, لكن التيمة المستخدمة من قبل المؤلفين واحدة تقريبا و هي تطرح تساؤلات مؤلفي روايات هذا الزمن (نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين) عن الطبيعة البشرية و كيف يمكن أن يتشكل وعي إنسان انقطع عن المجتمعات البشرية و الحضارات الإنسانية و عاش في الغابة مع الحيوانات. لو عاش (و هو احتمال ضئيل جدا) هل سيظل إنسانا كما نعرفه و كما إعتدناه في مجتمعاتنا أم سيكون مثل أي حيوان آخر في طبيعته و سلوكه ؟!!
كان ثلاثة من الفيوجين ( السكان الأصليين في تييرا ديل فيوجو بأمريكا الجنوبية ) على متن السفينة و هؤلاء كانوا قد تم إختطافهم في رحلة البيجل الأولى ، وقضوا سنة كاملة في إنجلترا حيث تم تعليمهم اللغة الإنجليزية و تهذيبهم بالأصول و الطباع الحضارية .. و قد استجابوا لهذا التعليم و التهذيب, و بدوا و كأنهم ناس عاديين ولدوا في إنجلترا. ثم تمَّ إعادتهم إلى تييرا ديل فيوجو (Tierra del Fuego ) كمُبشّرين بالمسيحية لأهلهم من السكان الأصليين لهذة المناطق البدائية.
هؤلاء الثلاثة بمجرد رجوعهم الي جزيرتهم, و بدلا من ان ينقلوا الي السكان البدائيين الحضارة و الثقافة الإنجليزية و يبشروهم بالمسيحية .. خلعوا فورا ثياب المدنية و عادوا الي أهلهم العراة البدائيين كأن شيئا لم يكن, رافضين العودة لإنجلترا مرة اخرى. هذة الحادثة على وجه الخصوص أثرت في داروين و عرفته كم أن الخيط الفاصل بين مدنية الإنسان و همجيته هو خيط رفيع و ضعيف.
بوجه عام كانت رحلات الأوربيين لقارات العالم الجديد و الجزر المكتشفة حديثا و غزوهم للعالم كله عرفتهم بثقافات بدائية و مجتمعات همجية في أفريقيا و الأمازون حيث لا يزال الناس يعيشون كالحيوانات البدائية بل حتى يمارسون طقوس شديدة الوحشية في أكل لحوم البشر و التضحية بالبشر. و هي العادات و الموروثات التي ذكرت الأوربيين بأصل و حقيقة الجنس البشري و دور الثقافة و البيئة الإجتماعية في تشكيل وعي الإنسان. و ربما لولا تطور السفن بشكل كافي و إستكشاف العالم الجديد في القارتان الأمريكيتان ما كان داروين قد شاهد أو عرف أو أصطدم بحقائق كهذة أو فكر في معانيها.
و يغذي الدين هذة العجرفة عن طريق قصص و حكايات خرافية بلا معنى و بلا نهاية .. فالإله خلق العالم كله للإنسان (تقفيل سوبر لوكس) لأنه يذوب حبا في سواد عينيه و يعشقهم في الظلام (ظلام السماء السابعة) و يسهر الليل (كل الليالي) يعاني من لوعة الحب .. منتظرا يوم القيامة الذي سيجمعه بمخلوقه المفضل الرائع : الإنسان الجميل الرهيب الخرافي !! و هذا الإله لا هم له إلا مراقبة تفاهات الإنسان و سخافاته 24 ساعة في اليوم/7 يوم في الأسبوع و هو يفرح و يغضب كثيرا بكل ما يفعله هذا الكائن البشري بإفرازات أعضاؤه التناسلية شديدة الأهمية. و ينتظر بفارغ الصبر لقاء الحبيب البشري خمس مرات يوميا هي عدد الصلوات لليومية !!
إله عاطل لا يجد ما يملأ به فراغ وقته إلا حيواناته الأليفة كما يبدو ..
لهذا يتعلم المتدين سريعا أن الغرور و الصلف هي فضائل أخلاقية يباركها الإله شخصيا, و إن تفاهاته لها أهمية قصوى و إن مصيره هو الشغل الشاغل لخالق الكون نفسه. بل و يتعلم سريعا أنه عاقل و عالم و متحضر و طيب و أخلاقي بفطرته و لمجرد انه قرد بشري. بلا مجهود و لا صراع مع النفس ولا نمو أخلاقي سلوكي و لا تلمذة أو تعلم ولا تجربة و خطأ و لا معرفة و فهم ولا شيء .. هو جميل و رائع لمجرد أنه بشري و على الفطرة و يديه مرفوعه في الهواء !!
لا حاجة للقول طبعا أن كل هذة خرافات تغذي فساد الإنسان و إنحرافه .. ولا عجب بعد ذلك أن نجد ان الأكثر تدينا هو الأكثر جهلا و الأكثر إنحرافا. فالعلم علمنا التواضع و من ثم الواقعية قبل أن يهبنا معرفة الموجودات و كيفية عمل الأشياء. نحن الآن نعرف أن كوكب الأرض كله و بكل ما فيه هو أقل من ذرة تراب تافهة في كون لانهائي, و إن القرد البشري الذي نسميه الإنسان (نحن) ليس إلا حيوان آخر. و بالتالي فإن فطرة الإنسان ليست طيبة أو عاقلة أو متحضرة .. بل هي فطرة حيوانية همجية. و لكي يكون أي بشري عاقلا و متحضرا و خلوقا يحتاج الي شغل كثير و جهد كبير و إصرار و دأب و إلتزام .. و إلا إرتد و انتكس الي صورته الأولى مجرد حيوان همجي حر.
و حتى الذكاء و العقل الذي قد يميز الجنس البشري (المسألة فيها كلام) لن يجعل الإنسان “أفضل” من أي كائن حي آخر, و إلا من يستطيع ان يجاوب على السؤال : هل الإنسان أذكى أم الفيل أكبر أم الفهد أسرع ؟!! نعم, الذكاء البشري ليس أفضل من سرعة الفهد مثلا أو طيران النسر أو سباحة السمك او ضخامة الفيل .. الخ, هي مجرد الموهبة التي تميزنا و طريقتنا في التكيف مع الواقع و مع الطبيعة لكنها لا تجعلنا أفضل من أي كائن آخر أو أي موجود آخر حي أو غير حي. و حتى لو كان الذكاء أفضل من السرعة أو الضخامة أو الطيران (هذا ليس مؤكدا) فنحن (البشر) لن نكون أفضل أيضا .. فنحن لسنا آلهة الذكاء أو العقل بل إن هناك منا كائنات بشرية أغبى من الجاموس و أجهل من الخنزير : لا يتعلمون و لا يفهمون و لو بعد ألف عام.
و هذا يقودنا للبحث في معنى هذة الكلمة .. “أفضل” ؟! فهل الإنسان هو أفضل الكائنات الحية من حيث التكيف مع ظروف الحياة مثلا ؟ لا, ليس صحيحا. فالبكتيريا تسيطر على كوكب الأرض فعليا و هي الأكثر تكيفا و إنتشارا بإمتياز .. و بلا جدال. بل إن الفرد البشري يتكون من البكتيريا بأكثر مما يتكون من الخلايا الحية التي تشكل جسمه, و هو يعتمد في حياته و إستمراره على انواع كثيرة من هذة البكتيريا مثلما يعتمد على أعضاؤه الحيوية, و ربما أكثر.
إذن هل الإنسان هو الأفضل في الطيران مثلا ؟! لا, فلا تزال اغلب الطيور و الحشرات أقدر و أفضل على الطيران من الإنسان المزود بالآلات الطائرة. هل الإنسان أفضل للغوص في أعماق المحيطات من الأسماك ؟ هل هو أفضل حتى من حيث التنظيم و الإدارة من ممالك النمل و النحل ؟ هل هو أكثر تعاونا و ترابطا منهم ؟ ما هو وجه الأفضلية التي يتمتع بها الإنسان بالتحديد إذن ؟ لا يوجد إلا الموهبة الوحيدة للجنس البشري : العقل أو الذكاء .. و هي موهبة لا يتمتع بها كل الكائنات البشرية أيضا.
نحن أبدا لم نكن أكثر من حيوانات عارية (و لذلك نرتدي ثياب) مهما أدعينا من العظمة و مهما أعمانا الغرور : لقد تصادف ان نحصل نحن على الذكاء بدلا من قوة الأسد أو سرعة الفهد او طيران النسر أو خياشيم السمك .. الذكاء كان الموهبة الوحيدة التي تميز بها البشر و ساعدته على التكيف و الإستمرار لكنها أبدا لم تجعله أفضل من أي حيوان. ببساطة كل حيوان تكيف بطريقته و نحن حتى لسنا أفضل الحيوانات الحية تكيفا مع البيئة أو سيطرة على كوكب الأرض لأن الصراصير و الميكروبات و الفيروسات هي الاكثر انتشارا و الأفضل تكيفا و الأكثر عمرا في كوكب الأرض كله بدون طب أو زراعة أعضاء أو أدوية, بل و تعتبر عمليا و حسب أي مقياس هي الأنجح و الأقوى من أي أجناس أخرى.
في عالم متغير لا يمكن إعتبار الكائنات البشرية أنها كل واحد فكما كان أوائل البشر يعيشون كقرود وسط القرود إلا أنهم كانوا طليعة أجناس بشرية أكثر حيلة و ذكاء. طبيعي أن الكائنات الحية تتفاوت, ممالك فوق ممالك و طوائف فوق طوائف و رتب فوق رتب و فصائل فوق فصائل و أجناس فوق أجناس و في النهاية شعوب فوق شعوب و أفراد فوق أفراد .. و في كل مرة ظهر تطفر ناجح في أحد أجناس الكائنات الحية يجعلها تصير مختلفة و تستقل عن جنسها الأصلي كان من خلال طليعة من أوائل الجنس الجديد .
و يمكن أيضا بنفس القياس تصور أن هناك طليعة لجنس آخر متفوق تعيش بيننا و هم إخوتنا و أبناؤنا و جيراننا العلماء العباقرة, و إسم الفرد من هذا الجنس الجديد : إنسان. لفظ إنسان هو لفظ إخترعه البشر لكي يطرحوا شكل و خصائص الجنس المتفوق القادم أو المرحلة القادمة من التطور البشري, بالتأكيد الإنسان لن يكون بشريا فالبشر سيكونون هم أصل الإنسان و السلف المباشر له, و لكن هذا الجنس الجديد سيكون أكثر ذكاءا و وعيا و قوة و قدرة و إمكانيات .. جنس أفضل من الجنس البشري من جميع النواحي.
من يفكر و يعرف و يخترع هم قلة قليلة من البشر الذين يمكن ان ندعو كل واحد منهم إنسانا فهم أذكياء و منتجين, لكن بقية الجنس البشري هم ناس مستهلكين و أغبياء و غير قادرين على الإبداع أو الإختراع او حتى فهم الواقع بشكل سليم و لكنهم مع ذلك لديهم هذا الفخر و الكبرياء لكونهم بشر على أساس أن هؤلاء العباقرة و المخترعين ينتمون لنفس الجنس البشري الذي ينتمون هم إليه !! في الواقع لا, العباقرة و الأذكياء من البشر هم من جنس آخر نشأ بسبب التطفر العشوائي من الجنس البشري بنفس الطريقة التي نشا بها البشر من جنس القرود, و حق هؤلاء الناس العاديين في الفخر بإنجازات العباقرة و الأذكياء هو نفس حق الأسماك و الميكروبات في الفخر بنفس هذة الإنجازات.
لا يمكن أن يحسب كل كائن بشري إنسانا بل يجب أن تكون هناك مواصفات معينة أو معايير واضحة لتحديد الإنسان و فرزه عن قطيع الحيوانات البشرية .. معايير مثل معدل الذكاء و القدرة على معالجة المعلومات و حل المشاكل و ضبط النفس. يعني إنتقاء لأعلم العلماء و أذكى المخترعين لتمييز الإنسان عن البشري. و بعد فرز هؤلاء الذين يمثلون الطفرة الجديدة في الجنس البشري يتم تسليمهم قيادة الكوكب كله بحيث تكون له قيادة ذكية مؤهلة بدلا من القيادات الشعبية الجماهيرية التي تتمتع بكل غباء و فساد و عشوائية عامة الشعب.
يعني تكوين نخبة جديدة لا تعتمد على المال أو الإنتماء لعائلات معينة أو أعراق معينة بل نخبة من الأذكياء و العلماء و المخترعين و العباقرة المؤهلين لفهم الواقع بشكل سليم و حل مشكلاته .. بغض النظر عن لونهم أو عرقهم او جنسهم او غيره. و من ناحية أخرى ندعمهم لإنشاء جنس جديد من البشر يتصف بالمواصفات التي تميز هؤلاء القلة و التي يعتقد معظم البشر زورا أنهم يملكونها فعلا و هي مواصفات جنس الإنسان العاقل .. أو ربما جنس الإنسان العالِم.
مجموعة قصصية اسمها “كتاب الأدغال” أصدرها سنة 1894 الكاتب و الشاعر البريطاني “رديارد كيبلينج Rudyard Kipling” و حكى فيها عن الطفل ماوكلي الذي عاش في كنف الحيوانات الطيبة (النمر الأسود و صديقه الدب) بمساعدة الذئاب أيضا فقد أخذت عائلة من الذئاب ماوكلي لتربيته بين إخوته الذئاب الصغار.
طرزان أيضا هو شخصية خيالية ظهرت لأول مرة في أكتوبر 1912 في رواية “طرزان القردة” للمؤلف الأمريكي “إدغار رايس بوروس Edgar Rice Burroughs”. و حسب الرواية فإن طرزان واسمه الحقيقي هو “جون كلايتون”، هو ابن أحد النبلاء البريطانيين، وكان والداه على متن سفينة بالقرب من سواحل أفريقيا وقد ثار البحارة على قبطان ذلك السفينة واندلعت أعمال شغب وفوضى انتهت بانجراف واستقرار السفينة على الساحل الإفريقي. وبعدها يموت والدا جون كلايتن وهو رضيع، ويقوم قرد ضخم الحجم من نوع مانجاني برعايته ويتم إطلاق اسم طرزان عليه والذي يعني ذو البشرة البيضاء في لغة القردة.
لا يحتاج المرء للقول أن القصتان خياليتان, لكن التيمة المستخدمة من قبل المؤلفين واحدة تقريبا و هي تطرح تساؤلات مؤلفي روايات هذا الزمن (نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين) عن الطبيعة البشرية و كيف يمكن أن يتشكل وعي إنسان انقطع عن المجتمعات البشرية و الحضارات الإنسانية و عاش في الغابة مع الحيوانات. لو عاش (و هو احتمال ضئيل جدا) هل سيظل إنسانا كما نعرفه و كما إعتدناه في مجتمعاتنا أم سيكون مثل أي حيوان آخر في طبيعته و سلوكه ؟!!
جزر الجالاباجوس
التساؤلات مشروعة بالطبع خصوصا في هذا العصر, العصر الذي تلا نشر داروين لكتاب “أصل الأنواع” سنة 1859. و مع إن الحكايات التي ظهرت بعد ذلك عن الأطفال الذين نشأوا في غابة مع الحيوانات هي حكايات خيالية, إلا أن حكاية داروين عن الثلاثة فيوجين كانت مشاهدة عينية و حدث حقيقي واجهه داروين بنفسه على متن سفينة البيجل الشهيرة التي كان مقدرا لها أن تحمل داروين لجزر الجالاباجوس أثناء إستكشاف ورسم الخط الساحلي لأمريكا الجنوبية.كان ثلاثة من الفيوجين ( السكان الأصليين في تييرا ديل فيوجو بأمريكا الجنوبية ) على متن السفينة و هؤلاء كانوا قد تم إختطافهم في رحلة البيجل الأولى ، وقضوا سنة كاملة في إنجلترا حيث تم تعليمهم اللغة الإنجليزية و تهذيبهم بالأصول و الطباع الحضارية .. و قد استجابوا لهذا التعليم و التهذيب, و بدوا و كأنهم ناس عاديين ولدوا في إنجلترا. ثم تمَّ إعادتهم إلى تييرا ديل فيوجو (Tierra del Fuego ) كمُبشّرين بالمسيحية لأهلهم من السكان الأصليين لهذة المناطق البدائية.
هؤلاء الثلاثة بمجرد رجوعهم الي جزيرتهم, و بدلا من ان ينقلوا الي السكان البدائيين الحضارة و الثقافة الإنجليزية و يبشروهم بالمسيحية .. خلعوا فورا ثياب المدنية و عادوا الي أهلهم العراة البدائيين كأن شيئا لم يكن, رافضين العودة لإنجلترا مرة اخرى. هذة الحادثة على وجه الخصوص أثرت في داروين و عرفته كم أن الخيط الفاصل بين مدنية الإنسان و همجيته هو خيط رفيع و ضعيف.
بوجه عام كانت رحلات الأوربيين لقارات العالم الجديد و الجزر المكتشفة حديثا و غزوهم للعالم كله عرفتهم بثقافات بدائية و مجتمعات همجية في أفريقيا و الأمازون حيث لا يزال الناس يعيشون كالحيوانات البدائية بل حتى يمارسون طقوس شديدة الوحشية في أكل لحوم البشر و التضحية بالبشر. و هي العادات و الموروثات التي ذكرت الأوربيين بأصل و حقيقة الجنس البشري و دور الثقافة و البيئة الإجتماعية في تشكيل وعي الإنسان. و ربما لولا تطور السفن بشكل كافي و إستكشاف العالم الجديد في القارتان الأمريكيتان ما كان داروين قد شاهد أو عرف أو أصطدم بحقائق كهذة أو فكر في معانيها.
عجرفة البشر
و مع كل إشارة و ملاحظة على إنحطاط السلوك البشري في الكثير من الأحيان, إلا ان من أسوأ الرذائل التي تعلمها الأديان للإنسان هو الكبرياء و العجرفة .. كبرياء و عجرفة المؤمنين على غير المؤمنين, و كبرياء و عجرفة الوطنيين على الأجانب, و كبرياء و عجرفة الرجال على النساء و العكس, و كبرياء و عجرفة البشر على بقية الكائنات الحية .. و كل فرصة للكبرياء و العجرفة يستغلها البشري أفضل إستغلال !! هي رذائل و نقائص يتم زرعها في الكائن البشري بوجه عام مما يجعله مغرورا و متعاليا على كل ما عداه من الكائنات الحية, بشر و غير البشر, مؤمنين و غير المؤمنين .. مجرد ان يتطبع البشري بطابع العجرفة لن يستطيع أن يميز أو يفصل بين مؤمنين و غير مؤمنين : هو يتعالى على الجميع و يتكبر على الجميع .. تعالي الجاهل و كبرياء الأحمق.و يغذي الدين هذة العجرفة عن طريق قصص و حكايات خرافية بلا معنى و بلا نهاية .. فالإله خلق العالم كله للإنسان (تقفيل سوبر لوكس) لأنه يذوب حبا في سواد عينيه و يعشقهم في الظلام (ظلام السماء السابعة) و يسهر الليل (كل الليالي) يعاني من لوعة الحب .. منتظرا يوم القيامة الذي سيجمعه بمخلوقه المفضل الرائع : الإنسان الجميل الرهيب الخرافي !! و هذا الإله لا هم له إلا مراقبة تفاهات الإنسان و سخافاته 24 ساعة في اليوم/7 يوم في الأسبوع و هو يفرح و يغضب كثيرا بكل ما يفعله هذا الكائن البشري بإفرازات أعضاؤه التناسلية شديدة الأهمية. و ينتظر بفارغ الصبر لقاء الحبيب البشري خمس مرات يوميا هي عدد الصلوات لليومية !!
إله عاطل لا يجد ما يملأ به فراغ وقته إلا حيواناته الأليفة كما يبدو ..
لهذا يتعلم المتدين سريعا أن الغرور و الصلف هي فضائل أخلاقية يباركها الإله شخصيا, و إن تفاهاته لها أهمية قصوى و إن مصيره هو الشغل الشاغل لخالق الكون نفسه. بل و يتعلم سريعا أنه عاقل و عالم و متحضر و طيب و أخلاقي بفطرته و لمجرد انه قرد بشري. بلا مجهود و لا صراع مع النفس ولا نمو أخلاقي سلوكي و لا تلمذة أو تعلم ولا تجربة و خطأ و لا معرفة و فهم ولا شيء .. هو جميل و رائع لمجرد أنه بشري و على الفطرة و يديه مرفوعه في الهواء !!
لا حاجة للقول طبعا أن كل هذة خرافات تغذي فساد الإنسان و إنحرافه .. ولا عجب بعد ذلك أن نجد ان الأكثر تدينا هو الأكثر جهلا و الأكثر إنحرافا. فالعلم علمنا التواضع و من ثم الواقعية قبل أن يهبنا معرفة الموجودات و كيفية عمل الأشياء. نحن الآن نعرف أن كوكب الأرض كله و بكل ما فيه هو أقل من ذرة تراب تافهة في كون لانهائي, و إن القرد البشري الذي نسميه الإنسان (نحن) ليس إلا حيوان آخر. و بالتالي فإن فطرة الإنسان ليست طيبة أو عاقلة أو متحضرة .. بل هي فطرة حيوانية همجية. و لكي يكون أي بشري عاقلا و متحضرا و خلوقا يحتاج الي شغل كثير و جهد كبير و إصرار و دأب و إلتزام .. و إلا إرتد و انتكس الي صورته الأولى مجرد حيوان همجي حر.
و حتى الذكاء و العقل الذي قد يميز الجنس البشري (المسألة فيها كلام) لن يجعل الإنسان “أفضل” من أي كائن حي آخر, و إلا من يستطيع ان يجاوب على السؤال : هل الإنسان أذكى أم الفيل أكبر أم الفهد أسرع ؟!! نعم, الذكاء البشري ليس أفضل من سرعة الفهد مثلا أو طيران النسر أو سباحة السمك او ضخامة الفيل .. الخ, هي مجرد الموهبة التي تميزنا و طريقتنا في التكيف مع الواقع و مع الطبيعة لكنها لا تجعلنا أفضل من أي كائن آخر أو أي موجود آخر حي أو غير حي. و حتى لو كان الذكاء أفضل من السرعة أو الضخامة أو الطيران (هذا ليس مؤكدا) فنحن (البشر) لن نكون أفضل أيضا .. فنحن لسنا آلهة الذكاء أو العقل بل إن هناك منا كائنات بشرية أغبى من الجاموس و أجهل من الخنزير : لا يتعلمون و لا يفهمون و لو بعد ألف عام.
طبيعية الذكاء البشري
و بفرض اننا أذكياء لهذة الدرجة (و ليس كل البشر كذلك) فنحن لم نستحق هذا الذكاء, لم نكسبه أو نختاره بإرادتنا. نحن لم نختار أن نحيا أصلا أو نكون موجودين .. فلماذا نبحث عن فضل أو مديح لأشياء لم نختارها ؟! إنه نظام الحياة العشوائي الفوضوي حيث الإنتخاب الطبيعي لمن هو أنسب للبقاء بغض النظر عن أهمية الصفات او الكائنات التي ستبقى, فالطبيعة ليس لها صاحب أو عزيز .. و من لا يتفق مع مواصفاتها و معاييرها للحياة يُقتل فورا بلا تفاهم و لا تفاوض.و هذا يقودنا للبحث في معنى هذة الكلمة .. “أفضل” ؟! فهل الإنسان هو أفضل الكائنات الحية من حيث التكيف مع ظروف الحياة مثلا ؟ لا, ليس صحيحا. فالبكتيريا تسيطر على كوكب الأرض فعليا و هي الأكثر تكيفا و إنتشارا بإمتياز .. و بلا جدال. بل إن الفرد البشري يتكون من البكتيريا بأكثر مما يتكون من الخلايا الحية التي تشكل جسمه, و هو يعتمد في حياته و إستمراره على انواع كثيرة من هذة البكتيريا مثلما يعتمد على أعضاؤه الحيوية, و ربما أكثر.
إذن هل الإنسان هو الأفضل في الطيران مثلا ؟! لا, فلا تزال اغلب الطيور و الحشرات أقدر و أفضل على الطيران من الإنسان المزود بالآلات الطائرة. هل الإنسان أفضل للغوص في أعماق المحيطات من الأسماك ؟ هل هو أفضل حتى من حيث التنظيم و الإدارة من ممالك النمل و النحل ؟ هل هو أكثر تعاونا و ترابطا منهم ؟ ما هو وجه الأفضلية التي يتمتع بها الإنسان بالتحديد إذن ؟ لا يوجد إلا الموهبة الوحيدة للجنس البشري : العقل أو الذكاء .. و هي موهبة لا يتمتع بها كل الكائنات البشرية أيضا.
نحن أبدا لم نكن أكثر من حيوانات عارية (و لذلك نرتدي ثياب) مهما أدعينا من العظمة و مهما أعمانا الغرور : لقد تصادف ان نحصل نحن على الذكاء بدلا من قوة الأسد أو سرعة الفهد او طيران النسر أو خياشيم السمك .. الذكاء كان الموهبة الوحيدة التي تميز بها البشر و ساعدته على التكيف و الإستمرار لكنها أبدا لم تجعله أفضل من أي حيوان. ببساطة كل حيوان تكيف بطريقته و نحن حتى لسنا أفضل الحيوانات الحية تكيفا مع البيئة أو سيطرة على كوكب الأرض لأن الصراصير و الميكروبات و الفيروسات هي الاكثر انتشارا و الأفضل تكيفا و الأكثر عمرا في كوكب الأرض كله بدون طب أو زراعة أعضاء أو أدوية, بل و تعتبر عمليا و حسب أي مقياس هي الأنجح و الأقوى من أي أجناس أخرى.
في عالم متغير لا يمكن إعتبار الكائنات البشرية أنها كل واحد فكما كان أوائل البشر يعيشون كقرود وسط القرود إلا أنهم كانوا طليعة أجناس بشرية أكثر حيلة و ذكاء. طبيعي أن الكائنات الحية تتفاوت, ممالك فوق ممالك و طوائف فوق طوائف و رتب فوق رتب و فصائل فوق فصائل و أجناس فوق أجناس و في النهاية شعوب فوق شعوب و أفراد فوق أفراد .. و في كل مرة ظهر تطفر ناجح في أحد أجناس الكائنات الحية يجعلها تصير مختلفة و تستقل عن جنسها الأصلي كان من خلال طليعة من أوائل الجنس الجديد .
و يمكن أيضا بنفس القياس تصور أن هناك طليعة لجنس آخر متفوق تعيش بيننا و هم إخوتنا و أبناؤنا و جيراننا العلماء العباقرة, و إسم الفرد من هذا الجنس الجديد : إنسان. لفظ إنسان هو لفظ إخترعه البشر لكي يطرحوا شكل و خصائص الجنس المتفوق القادم أو المرحلة القادمة من التطور البشري, بالتأكيد الإنسان لن يكون بشريا فالبشر سيكونون هم أصل الإنسان و السلف المباشر له, و لكن هذا الجنس الجديد سيكون أكثر ذكاءا و وعيا و قوة و قدرة و إمكانيات .. جنس أفضل من الجنس البشري من جميع النواحي.
من يفكر و يعرف و يخترع هم قلة قليلة من البشر الذين يمكن ان ندعو كل واحد منهم إنسانا فهم أذكياء و منتجين, لكن بقية الجنس البشري هم ناس مستهلكين و أغبياء و غير قادرين على الإبداع أو الإختراع او حتى فهم الواقع بشكل سليم و لكنهم مع ذلك لديهم هذا الفخر و الكبرياء لكونهم بشر على أساس أن هؤلاء العباقرة و المخترعين ينتمون لنفس الجنس البشري الذي ينتمون هم إليه !! في الواقع لا, العباقرة و الأذكياء من البشر هم من جنس آخر نشأ بسبب التطفر العشوائي من الجنس البشري بنفس الطريقة التي نشا بها البشر من جنس القرود, و حق هؤلاء الناس العاديين في الفخر بإنجازات العباقرة و الأذكياء هو نفس حق الأسماك و الميكروبات في الفخر بنفس هذة الإنجازات.
لا يمكن أن يحسب كل كائن بشري إنسانا بل يجب أن تكون هناك مواصفات معينة أو معايير واضحة لتحديد الإنسان و فرزه عن قطيع الحيوانات البشرية .. معايير مثل معدل الذكاء و القدرة على معالجة المعلومات و حل المشاكل و ضبط النفس. يعني إنتقاء لأعلم العلماء و أذكى المخترعين لتمييز الإنسان عن البشري. و بعد فرز هؤلاء الذين يمثلون الطفرة الجديدة في الجنس البشري يتم تسليمهم قيادة الكوكب كله بحيث تكون له قيادة ذكية مؤهلة بدلا من القيادات الشعبية الجماهيرية التي تتمتع بكل غباء و فساد و عشوائية عامة الشعب.
يعني تكوين نخبة جديدة لا تعتمد على المال أو الإنتماء لعائلات معينة أو أعراق معينة بل نخبة من الأذكياء و العلماء و المخترعين و العباقرة المؤهلين لفهم الواقع بشكل سليم و حل مشكلاته .. بغض النظر عن لونهم أو عرقهم او جنسهم او غيره. و من ناحية أخرى ندعمهم لإنشاء جنس جديد من البشر يتصف بالمواصفات التي تميز هؤلاء القلة و التي يعتقد معظم البشر زورا أنهم يملكونها فعلا و هي مواصفات جنس الإنسان العاقل .. أو ربما جنس الإنسان العالِم.
|