|
هل قرأت رواية “1984″ ؟ في الغالب أن أي كائن حي عاقل سيخسر الكثير لو لم يقرأ هذة الرواية.
1984 رواية ديستوبية (الديستوبيا عكس اليوتوبيا, أي المدينة اللعينة الكابوسية) من تأليف جورج أورويل قدمها في عام 1949, و هي رواية كان المقصود بها إنتقاد النظام الشيوعي السوفيتي (مثل روايته أيضا: مزرعة الحيوانات) و قهر الحريات في الأنظمة الإستبدادية بوجه عام. لكن الجميل في هذة الرواية بالذات أنها تقدم مثال صارخ و فج للسلطة الفاسدة المستبدة بشكل يثير الفكر و التأمل في كل سلطة لها حضور و تأثير في أسلوب الحياة البشري. يعني سواء سلطة الإله أو سلطة رجل الدين او سلطة رأس الدولة أو رأس الحكومة أو سلطة الأب او الأم او سلطة عميد الكلية او الدكتور في الجماعة, او سلطة المدراء في العمل, أو سلطة الناظر و المعلمين في المدرسة .. و كل سلطة يمكن للمرء أن يتعامل معها المرء منذ ولادته, هذة الرواية تفرض على القارئ إعادة تعريف السلطة و إعادة التفكير في معنى السلطة و الغرض منها.
رواية “1984″ مليئة بالإسقاطات و الإيحاءات الدينية و السياسية, و فساد السلطة فيها يبدو فجا و صارخا. ففي مجتمع يتفشى فيه الرعب من طرف المواطنين من بطش و طغيان الدولة، مجتمع تُصادر فيه الحقوق و تُنتهك الحريّات و تكبت فيه كل محاولة للحياة او حتى للتفكير. مجتمع خاضع لدولة شمولية طبقية أوتوقراطية مستبدة، حيث شرطة الفكر و الولاء ترصد و تراقب الشعب كله و حيث يتجسس الجميع على الجميع. مجتمع يخلو من أي بهجة او حتى من أي انجاز أو إبداع. و دولة يتمثل قبحها من خلال أربع وزارات : وزارة الحقيقة التي تزوّر الحقائق و تبتدع الأكاذيب، و وزارة الحب التي تسوم النّاس العذاب و تناهض العلاقات الحميمة بين أفراد الشعب، و وزارة السلام المختصّة بشؤون الحرب و تصنيع الأسلحة، و وزارة الوفرة الفاشلة في اشباع الناس. أما “الأخ الأكبر” فهو إله الدولة و معبودها الاول و رئيس كهنتها الاعلى الذي يأتي في قمّة هرم الحزب يليه أعضاء الحزب و أخيرًا عامّة الشعب من الكادحين. و تبدو الفجاجة جلية واضحة من خلال الشعار المفضل للحزب الحاكم :
المعنى المفهوم و الذي يؤكده مشايخ الإسلام بخصوص هذة الآية هو أنه لا سائل يسأل الإله عن الذي يفعله بالكائنات و الموجودات من حياة وموت وإعزاز وإذلال و غيره. و حجة ذلك أنه خلقهم و هم عبيده ، وجميعهم في ملكه وسلطانه ، والحكم حكمه ، والقضاء قضاؤه ، لا شيء فوقه يسأله عما يفعل فيقول له : لم فعلت ؟ ولم لم تفعل ؟ لكن (هم يسألون) لأن جميع من في السماوات والأرض مسئولون عن أفعالهم ، ومحاسبون على أعمالهم ، وهو الذي يسألهم عن ذلك ويحاسبهم عليه ، لأنه فوقهم ومالكهم ، وهم في سلطانه.
أظرف ما في الإسلام خصوصا و الأديان الإبراهيمية إجمالا و الدين عموما هو هذا الرسم لشخصية الإله كسلطة فاسدة و مفسدة .. و هي شخصية مقدسة في فسادها و إفسادها. و فساد السلطة الإلهية في الإسلام تحديدا يمكن ملاحظته بكل سهولة عن طريق هذا التشابه الفج الصارخ بين شعار الحزب الشمولي في رواية 1984 (الحرب هي السلام .. الحرية هي العبودية .. الجهل هو القوة) و بين التصورات الإسلامية عن إن الإسلام دين سلام و إن الجهاد و الحروب الإسلامية كانت من أجل نشر السلام بالعنف و الدم, ان العبودية لله هي قمة الحرية (لا تسأل كيف ذلك !!), و إن الجهل و الأمية مثل النبي الأمي هي قوة إيمان !!
و فساد المفاهيم و تناقضها ليس حكرا على الإسلام بالتأكيد, فالتصورات الدينية عن السلطة الإلهية كلها تتفق في مفاهيم معينة لا يتراجع عنها دين أو يتنازل عنها :
و لكن كيف يمكن لإله أن يكون شخصا أخلاقيا أو أن يمارس السلطة بطريقة أخلاقية إذا كان لا يوجد أي معايير أخلاقية أو موضوعية يقبل أن يخضع لها و لا يوجد من يحاسبه على تصرفاته او يراجع سلوكه ؟ المبدأ الصحيح هو أن السلطة مفسدة و السلطة المطلقة مفسدة مطلقة لان أي شخص لديه كل الحريات لفعل أي شيء بدون رقابة او مسآلة هو معرض للفساد و الخطأ أكثر من أي واحد آخر .. فإذا لم يضع هو معايير أو مبادئ لنفسه (أي معايير أو مبادئ) ضاع في الفوضى و الشر. لذلك فالسلطة تحتاج لكي تدعم بالرقابة لكي لا ينفرد صاحب السلطة بالنفوذ و يستغل السلطة بطريقة لا أخلاقية. فأي ديكتاتور يملك سلطة مطلقة في بلده يصعب عليه ألا ينحرف أو تغريه السلطة. و أي إله يملك سلطه مطلقة لن يجد ما يمنعه ان يفعل ما بدا له.
و لذلك فأي كائن أخلاقي هو رقيب على نفسه قبل ان يكون الآخرين رقباء عليه فهو يرفض السرقة حتى لو أتيحت له الفرصة و يمسك عن إيذاء الناس و لو حتى كان سيفلت دون عقاب و هذا ما يفعله فعلا الكثير من الناس .. بالرغم من علمهم يقينا (في ظروف معينة) انهم لن يحاسبوا على شيء. لكن هذا الأمر يحتاج إلي إرادة قوية و إلتزام هائل بالقيم الإنسانية و المبادئ الموضوعية.
أما الديكتاتور فهو تجسيد لشكل من أشكال الحكم المطلق حيث تكون سلطات الحكم محصورة في شخص واحد كالملكية أو مجموعة معينة كحزب سياسي أو ديكتاتورية الجيش. كلمة ديكتاتورية مشتقة من الفعل (Dictate) بمعنى يُملي أو يفرض أو يأمر .. وللديكتاتورية أنواع حسب درجة الإستبداد فالأنظمة ذات المجتمعات المغلقة التي لاتسمح لأي أحزاب سياسية ولا أي نوع من المعارضة وتعمل جاهدة لتنظيم كل مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية وتضع معاييرا للأخلاق وفق توجهات الحزب أو الفرد الحاكم تسمى أنظمة شمولية مثل ألمانيا النازية والإتحاد السوفييتي والفاشية ويمكن اعتبارها نسخة متطرفة من السلطوية حيث أن الأنظمة السلطوية لاتتحكم في المنظومة الاقتصادية والاجتماعية للبلد من الناحية النظرية على الأقل. فالأنظمة السلطوية بشكل أدق هي الأنظمة التي لاتحكم وفق أيدولوجية سياسية محددة و لذلك غالبا ما تكون درجة الفساد فيها أعلى من الأنظمة الشمولية ذات الأيديولوجية السياسية.
و العلاقة بين سلطة الملك (ملكية مطلقة) و سلطة الإله (سلطة مطلقة) هي علاقة بنوة و اتصال أوضح و أوثق من أن يتم الإشارة إليها, فالملك هو ظل الإله على الأرض و هو المنتصر بالله و هو خليفة رسول الله و خليفة رسول المسيح .. سلطان الملك المطلق مستمد دائما و حتما من سلطان الإله و لذلك فالملك يجب أن يكون متدينا أو على الأقل يجب أن يبدو متدينا. لكن إذا كان الملك هو ابن الإله فالديكتاتور هو منافس للإله يريد أن يجلس مكانه و يحكم بدلا منه .. الديكتاتور هو أيضا ابن للإله لكنه إبن عاق يريد ان ينفرد بحكمه المطلق بدون الشرعية و البركة الإلهية : لكنه حاكم مطلق مثل الملك المطلق و الإله المطلق تماما .. لانه إن قبل الخضوع لمعايير خارجية أو لمحاسبة موضوعية فهو لم يعد ديكتاتورا و لم يعد حاكما مطلقا.
و لكل ذلك يسهل ملاحظة أن عيوب و مواصفات السلطة الملكية المطلقة أو السلطة الإستبدادي بوجه عام يكاد يتطابق مع الحكم الإلهي الإستبدادي المطلق .. فالديكتاتور مثل الملك مثل الإله يحتكر سلطات مطلقة يحميها الجيش و الشرطة (العنف) و الإعلام (التضليل) و الجهاز الإداري للدولة (المنع و المنح) بكل عنف و بطش و بكل إغراء و خداع أيضا. و الديكتاتور مثل الملك مثل الإله قد يسمح لنفسه بالتدخل في كل شئون الآخرين سواء لها علاقة بسلطاته أو لم يكن لها علاقة, فهي سلطة فاشلة و فاسدة و مخادعة و بلا معنى و لا فائدة في الغالب.
و بالطبع يشعر الناس تجاه الآلهة السياسية (حكام الدول) كما يشعرون تجاه الآلهة الدينية .. بل إن مواقفهم تكون أوضح و أقوى. فبسبب عنف السلطة السياسية و خداعها و شموليتها و فسادها و إحتكارها و فشلها الحتمي .. تقوم الثورات و تسقط الأنظمة عبر التاريخ. فكل سلطة تسيء إستخدام أدواتها للبطش و العنف و الإنتقام و الخداع و الحصول على مكاسب خاصة و مجاملة الأحباب و الأتباع و من ثم يصيبها الفشل المحتوم .. لن تحصل إلا على كل نفور و هجر و رفض ممن تتسلط عليهم. إن مفهوم الحرية نفسه قد تمت صياغته للتعبير عن قيمة الإفلات من كل سلطة و كل نظام و كل نمط .. لان الإنطباع أصبح راسخا في النفوس أن كل سلطة فاسدة و مفسدة و مرهقة و مؤذية : و هو ما يبدو واضحا جليا في الأفكار الأناركية اللاسلطوية.
الآباء و الأمهات يمارسون الجنس فيحصلوا على كائنات جديدة مزعجة لا تتوقف عن الصراخ و التبول على نفسها, و هي حتى لا تستطيع ان تعبر عن إحتياجاتها بنفسها لأنها لا تستطيع الكلام, و هي تكون في أضعف حالاتها من حيث القدرة على الإعتماد على نفسها و قابليتها للمرض و الموت. و في النهاية فهذة الكائنات بلا شخصية ولا ذاكرة ولا طباع ولا أي شيء لأنها كائنات جديدة لم تخوض أي خبرات أو تجارب بل هي مثل صفحة بيضاء ناصعة يخط عليها الأب و الأم أول الخطوط و أهمها .. بل الخطوط التي ستشكل كل بقية الخطوط و التي ستلازم هذة الكائنات بقية حياتها.
و مع إن إنتاج كائنات جديدة يستدعي بالفعل إمكانيات و معارف و مهارات معينة إلا أن كل قرد بشري يستطيع أن يمارس الجنس مع قردة بشرية أخرى لكي ينجبوا قرود بشرية صغيرة .. يفعلون ذلك بلا تعليم أو تدريب أو تأهيل من أي نوع. و هم بعد أن ينجبوهم إما ان يدخلوهم مدارس محترمة لكي يتعلموا الرياضيات و العلوم و التاريخ و إما ان يعلموهم النشل و السرقة او يجبروهم على العمل في مصانع او مناجم !! ما يحدث فعلا ان هناك تتم رعايتهم رعاية جيدة و هناك أطفال يتم إطلاقهم في الشوارع لكي يتم إغتصابهم او يصبحوا مجرمين و بلطجية .. فلا رقيب و لا حسيب للآباء أو الأمهات إلا المعايير و الحدود التي يضعونها هم لأنفسهم فقط !
لهذا فالسلطة الأبوية كانت دائما سلطة مطلقة يحددها و يعرفها الآباء خصوصا و الأمهات أيضا, و لأن الغريزة تعمل في الغالب فقد كان دائما الآباء و الأمهات هم السلطة المتعسفة لكنها المهمة و الضرورية و التي لا غنى عنها لكل طفل. بل إن هذة السلطة هي أصل كل سلطة, فقد كانت دائما محبوبة و محترمة مهما إعتراها من مفاسد و عيوب لما تعتمد عليه من رابطة عاطفية و رابطة دم .. و من شعور بالفضل و الإمتنان لآباء و أمهات كانوا يمثلون في وقت من الأوقات آلهة مطلقة بالنسبة لأبناءهم و بناتهم : بل كانوا هم الأصل و سبب التصديق في وجود آلهة خارقة هم والد فضائي يحمي من السماء أو أم فضائية ترعى من السماء.
يعني كم واحد منا إستاء من سمنته و بدانته و ثقل حركته فأراد أن يتخفف من هذا الوزن لكنه لم يستطع ذلك بسبب ضعفه أمام الطعام ؟! كم من واحد أراد أن يذاكر دروسه لكنه لم يستطع ان يحمل نفسه على هذا الإلتزام ؟! كم من واحد أراد أن يقرأ كتبا و أن يثقف نفسه لكنه يجد نفسه تتهرب من هذا بكل الطرق ؟! كم من واحد أراد ان يمارس الرياضة بشكل منتظم لكنه لا يستطيع الإلتزام بهذا لفترة طويلة ؟! كم من واحد أراد أن ينفع نفسه بعمل أو التزام لكنه وجد هذا صعبا او مستعصيا ؟! بل كم واحد لا يستطيع ان يمنع نفسه من التحرش بالنساء في الأماكن العامة ؟ كم واحد يترك نفسه تسرق من أموال لا تستحقها لمجرد أن هناك فرصة لفعل ذلك و الإفلات دون عقاب ؟ كم واحد تنفلت أعصابه في أوقات الغضب فيتهور و يسيء و يؤذي بشكل يندم عليه بعد ذلك ؟ كم واحد تنفلت أعصابه او إنفعالاته أو شهواته أو نزواته او رغباته بشكل جامح متمرد على سلطة العقل داخله ؟! بالتأكيد الكثير من الناس بهذة الطريقة فعلا .. بقدر أو بآخر.
إذن هل أيا من هذة النماذج يمكن وصفها بأنها : إلهة نفسها أو سيدة نفسها او حاكمة نفسها ؟!
و المشكلة بالنسبة للإنسان الفاقد السيطرة على نفسه ليس انه سمين او نحيف, مجتهد أو كسول, مثقف او جاهل .. الخ, المشكلة هي في نظام الحكم الذي يعتمد عليه عقله في إدارة جسده او ذاته او نفسيته و غريزته (أيا كانت التعبيرات). فأسلوب التحكم في الذات يستقيه المرء و يتعلمه مباشر من بيئته التي ولد بها, من أبوه و أمه في معظم الاحوال لو كان هم أكثر من قضى معهم أوقاتا و أكثر من تأثر بهم. لأن الأب و الأم عادة يمارسون دور العقل على الطفل الصغير الناشئ في الحياة .. لأن كل طفل صغير هو حيوان صغير منفلت و همجي حتى يمارس الآباء و الأمهات دورهم في تهذيبه و إستئناسه و إدخاله في المنظومة الحضارية الإنسانية : و هم حين يفشلوا في ذلك يكونوا قد أنتجوا مجرم أو مغتصب او بلطجي أو هجام آخر و أطلقوه على المجتمع.
المرء عادة يتعلم كيف يتحكم في نفسه و كيف يقودها من خلال الأساليب التي يتعامل بها أبوه و أمه معه, فلو كان أبوه حاكما قاسيا مستبدا و الأم طيبة مسكينة ضعيفة (مثلا) صار أطفاله إما خيارين لا ثالث لهما : إما أن يستبدوا بأنفسهم و يقهروها (أقمع جسدي و أستعبده : كورنثوس الأولى – 9 : 27) كما كان الأب يفعل, او تكون عقولهم ضعيفة و متساهلة معهم مثل الأم .. او يقوموا بدمج الأسلوبين بشكل ما أو درجة ما. لكن لان الأب و الأم يكونوا هم دائما صوت العقل بالنسبة للطفل و أساليبهم في التربية يفترض أن لها حجج ضرورية أو عقلانية فهو حين يستقل عنهم تدريجيا يبدأ عقله لا إراديا في ممارسة الدور الذي كانوا هم يمارسوه .. لكن لو كان الآباء أشخاص منفلتين و الأمهات لا تهتم و لا ترعى أو كان الآباء و الأمهات هم رعاة الإنفلات و الرعونة فلا يمكن للمرء أن ينتظر إنسانا عاقلا نتاج تربيتهم هذة.
يمكن فعلا إعتبار أن السلطة الأبوية هي منبع و أصل كل السلطات, و حجتها الأساسية هي الضرورة العملية ثم تاتي بعد ذلك حجج مثل الفضل و التضحية التي قام بها الآباء و الأمهات, أو القداسة الإلهية (بطبيعة الحال) لمكانة الأب و الأم. و لهذا يمكن فهم ان السلطة دائما هي وظيفة العقل, كما أن العقل لا يكون عقلا لو لم يمارس سلطة. فالحكومة هي عقل البلد كما ان الآباء و الأمهات هم عقل الأسرة, و كل من يمارس سلطة هو يتطوع لكي يكون عقل المكان أو النظام الذي يتطوع لرئاسته أو قيادته .. و هو ما لن يكون له أي معنى لو كان فاشلا في التحكم في إنفعالاته و رغباته و غرائزه. كل عقل هو سلطة في حد ذاته, سلطة على الجسد الحامل و المنتج لهذا العقل .. كما أن كل سلطة هي عقل الكيان أو المنظومة التي تتسلط عليها : لان السلطة وظيفة لكن العقل هوية.
بالطبع العقل ليس إلها, و التصور الديني عن عقل خارق يحيا في السماء, عقل يحقق إرادته عن طريق كن فيكون, عقل لا يحتاج إلي ذات يحاول أن يحملها على فعل أشياء و الإلتزام بأعمال بشكل متواصل, عقل لا يجتهد و لا يتعب و لا يترقى و لا يتطور لانه يحقق كل شيء من خلال الأمر و النهي .. هذا التصور فاسد من أساسه و غير قابل للتطبيق عمليا و هو بلا معنى أساسا لأن كل عقل يحتاج إلي دماغ مادي لكي يولده فكل برنامج Software يحتاج إلي جهاز كمبيوتر Hardware لكي يقوم بتشغيله, و بدون دماغ مادية و ذات مادية لا وجود لأي نوع من أنواع الذكاء أو العقلانية. يعني لا وجود لعقل قائم لوحده في الفراغ و مشكلة التحكم في الذات هذة هي مشكلة تواجه كل عقل لأن كل عقل يعتمد ذات أو جسد تقوم بتشغيله و توليده, ذات مرتبطه بالعقل في الحياة و الموت.
لذلك فهذا الإله الملك الديكتاتور من المستحيل ان يتحكم في ذاته بأسلوبه هذا, و لا يوجد عقل يمكنه ان يتحكم في واقعه أو بيئته بأسلوب “كن فيكون” هذا .. و لا توجد حكومة يمكنها قيادة شعب بأسلوب كن فيكون الساذج التافه هذا. فالعقل لا يواجه الواقع فقط بكل غموضه و غرائبه و تحدياته و صعوباته و مشاكله, هذة هي الجبهة الخارجية فقط .. العقل يواجه أيضا ذات لديها إحتياجات نفسية بجانب الإحتياجات الغريزية و هي لا تعرف أي شيء عن الواقع بمشاكله و تحدياته إلا من خلال العقل فقط. لذلك فكل عقل يحارب دائما على جبهتين لا جبهة واحدة, و لا يوجد عقل يحارب على جبهة واحدة أبدا. العقل يحاول كشف غموض الطبيعة و حل مشاكلها معه و التحكم فيها بقوانينها الطبيعية .. سواء الطبيعة الخارجة عنه المتمثلة في الأرض و البحر و الشجر و الجو و غيره, أو الطبيعة الساكنه فيه و المتمثلة في النفسية و الغريزة.
العقل ليس إلها و ليس خارقا و لا يمكنه تحقيق أي شيء بكن فيكون, و هو يخطئ كثيرا .. يخطي لأسباب كثيرة .. يخطي لدرجة أنه لا يمكن الإعتماد عليه و هو عقل حر متغير فوضوي بهذة الطريقة. الذات حرة متغيرة فوضوية فعلا, فلو كان العقل أيضا يعمل بنفس الأسلوب فعلى الدنيا السلام. يفترض بالعقل أن يكون صوت الحكمة و صوت النظام و صوت الضمير في كل إنسان, و لكن لان العقل هو كيان شخصي أيضا فهو غير قادر لوحده على تحقيق أي شيء.
العقل يحتاج لأن يخضع لمنطق موضوعي خارج عنها, إلي المعايير العلمية الموضوعية التي لا تجامل العقل و لا تضطهده .. لان العلم موضوعي و محايد اشد ما تكون الموضوعية و الحياد. العقل سيخضع حتما شاء هذا أم أبى, العقل لا يتعلم أو يمارس سلطة إلا من خلال أشخاص و موضوعات : و لان كل الأشخاص يضعفون أحيانا و يخطئون أحيانا (كثيرا أو قليلا) فلا معنى من ترك العقل ينبهر أو ينقل عن أشخاص مخطئين. نعم, الموضوعات أيضا تخطئ و خصوصا العقائد .. لكن العلم (يخطئ أيضا) هو الوحيد الذي لديه آلية دائمة للتطهر الذاتي من الأخطاء و التكامل و التطور بشكل دائم من خلال المنهج العلمي الذي يعتمد على التجريب و الإختبار و المراجعة إلي ما لا نهاية, العلم هو أفضل ما انتجه العقل البشري و الذات البشري : العلم هو درة التاج العقلي و ذروة سنام العقلانية.
و لذلك فالعقل (أي عقل) بدون العلم الموضوعي الخارج عن الذات و الخارج عن العقل, بدون هذة المعايير النزيهة الشريفة المحايدة التي تتحسن دائما و تتطور دائما, لا مفر من أن يسقط في الخطأ و يتورط في العيوب و يفقد السيطرة على الذات و في النهاية يصير شخصا مخرفا جاهلا .. شخص يقدس العقل (عقله) الخاوي من أي علم أو منطق, العقل التافه السخيف الذي لا يحقق أي إنجاز عقلي. نعم, العقل بدون الآلية العلمية و بدون المعلومات الصحيحة لن يعمل بشكل جيد أو ناجح أبدا .. أي مدير او قائد في العالم يمكنه أن يصدر قرارات او يتحكم او يراقب بدون معلومات صحيحة او منهجية علمية محترمة ؟!!
العلم هنا يمكن أن يكون الحكم و المرجع و القاضي بين العناصر الإنسانية الثلاث, قاضي عدل و حكم موضوعي محايد لا يتحامل على طرف لصالح طرف لانه ليس شخصا أصلا فهو لا يحب و لا يكره بل كل موضوعه هو الحق و الخير و العدل للجميع. و العلم هنا حين يتمركز و يفض الإشتباك بين العقل و النفسية و الغريزة سيكون دعامة قوية للشخصية, مثل النظارة لضعيف النظر و مثل الدعامات المعدنية في الشرايين القلبية لمريض القلب. العلم يخضع للواقع فهو موضوعه و مجال بحثه, لذلك فحين يخضع العقل للعلم سيكتسب العقل واقعية و موضوعية و قدرة و كفاءة و فعالية و نجاح العلم .. و سيقوى على التحكم الإحترافي في النفسية و الغريزة. بإستخدام العلم كدعامة للشخصية سيستطيع حتى ضعاف العقول أو النفوس أو الغرائز أن يصبحوا أقوياء و أكثر تكيفا .. لأن العلم سيعفي العقل من أن يكون سلطة فاسدة أو مفسدة, مخدوعة أو خادعة, مظلومة أو ظالمة, فاشلة أو ضعيفة.
1984 رواية ديستوبية (الديستوبيا عكس اليوتوبيا, أي المدينة اللعينة الكابوسية) من تأليف جورج أورويل قدمها في عام 1949, و هي رواية كان المقصود بها إنتقاد النظام الشيوعي السوفيتي (مثل روايته أيضا: مزرعة الحيوانات) و قهر الحريات في الأنظمة الإستبدادية بوجه عام. لكن الجميل في هذة الرواية بالذات أنها تقدم مثال صارخ و فج للسلطة الفاسدة المستبدة بشكل يثير الفكر و التأمل في كل سلطة لها حضور و تأثير في أسلوب الحياة البشري. يعني سواء سلطة الإله أو سلطة رجل الدين او سلطة رأس الدولة أو رأس الحكومة أو سلطة الأب او الأم او سلطة عميد الكلية او الدكتور في الجماعة, او سلطة المدراء في العمل, أو سلطة الناظر و المعلمين في المدرسة .. و كل سلطة يمكن للمرء أن يتعامل معها المرء منذ ولادته, هذة الرواية تفرض على القارئ إعادة تعريف السلطة و إعادة التفكير في معنى السلطة و الغرض منها.
رواية “1984″ مليئة بالإسقاطات و الإيحاءات الدينية و السياسية, و فساد السلطة فيها يبدو فجا و صارخا. ففي مجتمع يتفشى فيه الرعب من طرف المواطنين من بطش و طغيان الدولة، مجتمع تُصادر فيه الحقوق و تُنتهك الحريّات و تكبت فيه كل محاولة للحياة او حتى للتفكير. مجتمع خاضع لدولة شمولية طبقية أوتوقراطية مستبدة، حيث شرطة الفكر و الولاء ترصد و تراقب الشعب كله و حيث يتجسس الجميع على الجميع. مجتمع يخلو من أي بهجة او حتى من أي انجاز أو إبداع. و دولة يتمثل قبحها من خلال أربع وزارات : وزارة الحقيقة التي تزوّر الحقائق و تبتدع الأكاذيب، و وزارة الحب التي تسوم النّاس العذاب و تناهض العلاقات الحميمة بين أفراد الشعب، و وزارة السلام المختصّة بشؤون الحرب و تصنيع الأسلحة، و وزارة الوفرة الفاشلة في اشباع الناس. أما “الأخ الأكبر” فهو إله الدولة و معبودها الاول و رئيس كهنتها الاعلى الذي يأتي في قمّة هرم الحزب يليه أعضاء الحزب و أخيرًا عامّة الشعب من الكادحين. و تبدو الفجاجة جلية واضحة من خلال الشعار المفضل للحزب الحاكم :
الحرب هي السلام .. الحرية هي العبودية .. الجهل هو القوة
رواية 1984 توضح بشكل روائي ما المدى الذي يمكن ان تصل إليه السلطة السياسية في فسادها و طغيانها, لكن الإسقاطات التي تحملها و تتضمنها ليست موجهة فقط إلي الدول الشمولية أو الشيوعية .. بل يمكن توجيهها تجاه كل سلطة مستبدة تمارس أيا من الممارسات التي حكى عنها أورويل في روايته الشهيرة, سواء كانت هذة السلطة : إله او ملك أو ديكتاتور أو رئيس أو مدير أو معلم او أب أو أم أو غيره .. فمفهوم السلطة مفهوم واسع و يستوعب كل هذة النماذج و اكثر.- سلطة الإله
المعنى المفهوم و الذي يؤكده مشايخ الإسلام بخصوص هذة الآية هو أنه لا سائل يسأل الإله عن الذي يفعله بالكائنات و الموجودات من حياة وموت وإعزاز وإذلال و غيره. و حجة ذلك أنه خلقهم و هم عبيده ، وجميعهم في ملكه وسلطانه ، والحكم حكمه ، والقضاء قضاؤه ، لا شيء فوقه يسأله عما يفعل فيقول له : لم فعلت ؟ ولم لم تفعل ؟ لكن (هم يسألون) لأن جميع من في السماوات والأرض مسئولون عن أفعالهم ، ومحاسبون على أعمالهم ، وهو الذي يسألهم عن ذلك ويحاسبهم عليه ، لأنه فوقهم ومالكهم ، وهم في سلطانه.
أظرف ما في الإسلام خصوصا و الأديان الإبراهيمية إجمالا و الدين عموما هو هذا الرسم لشخصية الإله كسلطة فاسدة و مفسدة .. و هي شخصية مقدسة في فسادها و إفسادها. و فساد السلطة الإلهية في الإسلام تحديدا يمكن ملاحظته بكل سهولة عن طريق هذا التشابه الفج الصارخ بين شعار الحزب الشمولي في رواية 1984 (الحرب هي السلام .. الحرية هي العبودية .. الجهل هو القوة) و بين التصورات الإسلامية عن إن الإسلام دين سلام و إن الجهاد و الحروب الإسلامية كانت من أجل نشر السلام بالعنف و الدم, ان العبودية لله هي قمة الحرية (لا تسأل كيف ذلك !!), و إن الجهل و الأمية مثل النبي الأمي هي قوة إيمان !!
و فساد المفاهيم و تناقضها ليس حكرا على الإسلام بالتأكيد, فالتصورات الدينية عن السلطة الإلهية كلها تتفق في مفاهيم معينة لا يتراجع عنها دين أو يتنازل عنها :
- سلطة مطلقة : أي لا يحدها شيء و لا يعلوها شيء و لا تخضع لشيء.
- سلطة منيعة : لا يقوى عليها شيء و لا يقدر على مواجهتها شيء و لا يهرب منها شيء.
- سلطة شمولية : تتدخل في كل شيء و تهتم بكل شيء و تتحكم في كل شيء.
- سلطة فاسدة : لأنها لا تخضع لمحاسبة و لا تحتكم لمعايير .. فالسلطة المطلقة مفسدة مطلقة.
- سلطة فاشلة : لأنه برغم القدرات المطلقة لهذة السلطة فلا يزال هناك إنفلات و فوضى و شر في العالم الخاضع لسلطانها.
- سلطة عنيفة : فهي لا تتسامح مع المعارضة و لا تقبل بإقتسام السلطة .. بل ترمي بكل كافر أو عاصي في معتقلات و سجون رهيبة و هي جهنم او الجحيم لكي تسوم هذة المعارضة كافة صنوف العذاب.
- سلطة عابثة : فهي سلطة لا هدف لها و لا تسعى لتحقيق عمل معين و لا تستمد شرعيتها من إنجاز شيء له قيمة .. بل هي سلطة قائمة بلا سبب و لا حجة إلا حجة البطش و العنف و الأمر الواقع.
و لكن كيف يمكن لإله أن يكون شخصا أخلاقيا أو أن يمارس السلطة بطريقة أخلاقية إذا كان لا يوجد أي معايير أخلاقية أو موضوعية يقبل أن يخضع لها و لا يوجد من يحاسبه على تصرفاته او يراجع سلوكه ؟ المبدأ الصحيح هو أن السلطة مفسدة و السلطة المطلقة مفسدة مطلقة لان أي شخص لديه كل الحريات لفعل أي شيء بدون رقابة او مسآلة هو معرض للفساد و الخطأ أكثر من أي واحد آخر .. فإذا لم يضع هو معايير أو مبادئ لنفسه (أي معايير أو مبادئ) ضاع في الفوضى و الشر. لذلك فالسلطة تحتاج لكي تدعم بالرقابة لكي لا ينفرد صاحب السلطة بالنفوذ و يستغل السلطة بطريقة لا أخلاقية. فأي ديكتاتور يملك سلطة مطلقة في بلده يصعب عليه ألا ينحرف أو تغريه السلطة. و أي إله يملك سلطه مطلقة لن يجد ما يمنعه ان يفعل ما بدا له.
و لذلك فأي كائن أخلاقي هو رقيب على نفسه قبل ان يكون الآخرين رقباء عليه فهو يرفض السرقة حتى لو أتيحت له الفرصة و يمسك عن إيذاء الناس و لو حتى كان سيفلت دون عقاب و هذا ما يفعله فعلا الكثير من الناس .. بالرغم من علمهم يقينا (في ظروف معينة) انهم لن يحاسبوا على شيء. لكن هذا الأمر يحتاج إلي إرادة قوية و إلتزام هائل بالقيم الإنسانية و المبادئ الموضوعية.
- سلطة الملك / الديكتاتور
أما الديكتاتور فهو تجسيد لشكل من أشكال الحكم المطلق حيث تكون سلطات الحكم محصورة في شخص واحد كالملكية أو مجموعة معينة كحزب سياسي أو ديكتاتورية الجيش. كلمة ديكتاتورية مشتقة من الفعل (Dictate) بمعنى يُملي أو يفرض أو يأمر .. وللديكتاتورية أنواع حسب درجة الإستبداد فالأنظمة ذات المجتمعات المغلقة التي لاتسمح لأي أحزاب سياسية ولا أي نوع من المعارضة وتعمل جاهدة لتنظيم كل مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية وتضع معاييرا للأخلاق وفق توجهات الحزب أو الفرد الحاكم تسمى أنظمة شمولية مثل ألمانيا النازية والإتحاد السوفييتي والفاشية ويمكن اعتبارها نسخة متطرفة من السلطوية حيث أن الأنظمة السلطوية لاتتحكم في المنظومة الاقتصادية والاجتماعية للبلد من الناحية النظرية على الأقل. فالأنظمة السلطوية بشكل أدق هي الأنظمة التي لاتحكم وفق أيدولوجية سياسية محددة و لذلك غالبا ما تكون درجة الفساد فيها أعلى من الأنظمة الشمولية ذات الأيديولوجية السياسية.
و العلاقة بين سلطة الملك (ملكية مطلقة) و سلطة الإله (سلطة مطلقة) هي علاقة بنوة و اتصال أوضح و أوثق من أن يتم الإشارة إليها, فالملك هو ظل الإله على الأرض و هو المنتصر بالله و هو خليفة رسول الله و خليفة رسول المسيح .. سلطان الملك المطلق مستمد دائما و حتما من سلطان الإله و لذلك فالملك يجب أن يكون متدينا أو على الأقل يجب أن يبدو متدينا. لكن إذا كان الملك هو ابن الإله فالديكتاتور هو منافس للإله يريد أن يجلس مكانه و يحكم بدلا منه .. الديكتاتور هو أيضا ابن للإله لكنه إبن عاق يريد ان ينفرد بحكمه المطلق بدون الشرعية و البركة الإلهية : لكنه حاكم مطلق مثل الملك المطلق و الإله المطلق تماما .. لانه إن قبل الخضوع لمعايير خارجية أو لمحاسبة موضوعية فهو لم يعد ديكتاتورا و لم يعد حاكما مطلقا.
و لكل ذلك يسهل ملاحظة أن عيوب و مواصفات السلطة الملكية المطلقة أو السلطة الإستبدادي بوجه عام يكاد يتطابق مع الحكم الإلهي الإستبدادي المطلق .. فالديكتاتور مثل الملك مثل الإله يحتكر سلطات مطلقة يحميها الجيش و الشرطة (العنف) و الإعلام (التضليل) و الجهاز الإداري للدولة (المنع و المنح) بكل عنف و بطش و بكل إغراء و خداع أيضا. و الديكتاتور مثل الملك مثل الإله قد يسمح لنفسه بالتدخل في كل شئون الآخرين سواء لها علاقة بسلطاته أو لم يكن لها علاقة, فهي سلطة فاشلة و فاسدة و مخادعة و بلا معنى و لا فائدة في الغالب.
و بالطبع يشعر الناس تجاه الآلهة السياسية (حكام الدول) كما يشعرون تجاه الآلهة الدينية .. بل إن مواقفهم تكون أوضح و أقوى. فبسبب عنف السلطة السياسية و خداعها و شموليتها و فسادها و إحتكارها و فشلها الحتمي .. تقوم الثورات و تسقط الأنظمة عبر التاريخ. فكل سلطة تسيء إستخدام أدواتها للبطش و العنف و الإنتقام و الخداع و الحصول على مكاسب خاصة و مجاملة الأحباب و الأتباع و من ثم يصيبها الفشل المحتوم .. لن تحصل إلا على كل نفور و هجر و رفض ممن تتسلط عليهم. إن مفهوم الحرية نفسه قد تمت صياغته للتعبير عن قيمة الإفلات من كل سلطة و كل نظام و كل نمط .. لان الإنطباع أصبح راسخا في النفوس أن كل سلطة فاسدة و مفسدة و مرهقة و مؤذية : و هو ما يبدو واضحا جليا في الأفكار الأناركية اللاسلطوية.
- سلطة الرئيس / المدير
- سلطة الأب / الأم
الآباء و الأمهات يمارسون الجنس فيحصلوا على كائنات جديدة مزعجة لا تتوقف عن الصراخ و التبول على نفسها, و هي حتى لا تستطيع ان تعبر عن إحتياجاتها بنفسها لأنها لا تستطيع الكلام, و هي تكون في أضعف حالاتها من حيث القدرة على الإعتماد على نفسها و قابليتها للمرض و الموت. و في النهاية فهذة الكائنات بلا شخصية ولا ذاكرة ولا طباع ولا أي شيء لأنها كائنات جديدة لم تخوض أي خبرات أو تجارب بل هي مثل صفحة بيضاء ناصعة يخط عليها الأب و الأم أول الخطوط و أهمها .. بل الخطوط التي ستشكل كل بقية الخطوط و التي ستلازم هذة الكائنات بقية حياتها.
و مع إن إنتاج كائنات جديدة يستدعي بالفعل إمكانيات و معارف و مهارات معينة إلا أن كل قرد بشري يستطيع أن يمارس الجنس مع قردة بشرية أخرى لكي ينجبوا قرود بشرية صغيرة .. يفعلون ذلك بلا تعليم أو تدريب أو تأهيل من أي نوع. و هم بعد أن ينجبوهم إما ان يدخلوهم مدارس محترمة لكي يتعلموا الرياضيات و العلوم و التاريخ و إما ان يعلموهم النشل و السرقة او يجبروهم على العمل في مصانع او مناجم !! ما يحدث فعلا ان هناك تتم رعايتهم رعاية جيدة و هناك أطفال يتم إطلاقهم في الشوارع لكي يتم إغتصابهم او يصبحوا مجرمين و بلطجية .. فلا رقيب و لا حسيب للآباء أو الأمهات إلا المعايير و الحدود التي يضعونها هم لأنفسهم فقط !
لهذا فالسلطة الأبوية كانت دائما سلطة مطلقة يحددها و يعرفها الآباء خصوصا و الأمهات أيضا, و لأن الغريزة تعمل في الغالب فقد كان دائما الآباء و الأمهات هم السلطة المتعسفة لكنها المهمة و الضرورية و التي لا غنى عنها لكل طفل. بل إن هذة السلطة هي أصل كل سلطة, فقد كانت دائما محبوبة و محترمة مهما إعتراها من مفاسد و عيوب لما تعتمد عليه من رابطة عاطفية و رابطة دم .. و من شعور بالفضل و الإمتنان لآباء و أمهات كانوا يمثلون في وقت من الأوقات آلهة مطلقة بالنسبة لأبناءهم و بناتهم : بل كانوا هم الأصل و سبب التصديق في وجود آلهة خارقة هم والد فضائي يحمي من السماء أو أم فضائية ترعى من السماء.
- سلطة العقل
يعني كم واحد منا إستاء من سمنته و بدانته و ثقل حركته فأراد أن يتخفف من هذا الوزن لكنه لم يستطع ذلك بسبب ضعفه أمام الطعام ؟! كم من واحد أراد أن يذاكر دروسه لكنه لم يستطع ان يحمل نفسه على هذا الإلتزام ؟! كم من واحد أراد أن يقرأ كتبا و أن يثقف نفسه لكنه يجد نفسه تتهرب من هذا بكل الطرق ؟! كم من واحد أراد ان يمارس الرياضة بشكل منتظم لكنه لا يستطيع الإلتزام بهذا لفترة طويلة ؟! كم من واحد أراد أن ينفع نفسه بعمل أو التزام لكنه وجد هذا صعبا او مستعصيا ؟! بل كم واحد لا يستطيع ان يمنع نفسه من التحرش بالنساء في الأماكن العامة ؟ كم واحد يترك نفسه تسرق من أموال لا تستحقها لمجرد أن هناك فرصة لفعل ذلك و الإفلات دون عقاب ؟ كم واحد تنفلت أعصابه في أوقات الغضب فيتهور و يسيء و يؤذي بشكل يندم عليه بعد ذلك ؟ كم واحد تنفلت أعصابه او إنفعالاته أو شهواته أو نزواته او رغباته بشكل جامح متمرد على سلطة العقل داخله ؟! بالتأكيد الكثير من الناس بهذة الطريقة فعلا .. بقدر أو بآخر.
إذن هل أيا من هذة النماذج يمكن وصفها بأنها : إلهة نفسها أو سيدة نفسها او حاكمة نفسها ؟!
و المشكلة بالنسبة للإنسان الفاقد السيطرة على نفسه ليس انه سمين او نحيف, مجتهد أو كسول, مثقف او جاهل .. الخ, المشكلة هي في نظام الحكم الذي يعتمد عليه عقله في إدارة جسده او ذاته او نفسيته و غريزته (أيا كانت التعبيرات). فأسلوب التحكم في الذات يستقيه المرء و يتعلمه مباشر من بيئته التي ولد بها, من أبوه و أمه في معظم الاحوال لو كان هم أكثر من قضى معهم أوقاتا و أكثر من تأثر بهم. لأن الأب و الأم عادة يمارسون دور العقل على الطفل الصغير الناشئ في الحياة .. لأن كل طفل صغير هو حيوان صغير منفلت و همجي حتى يمارس الآباء و الأمهات دورهم في تهذيبه و إستئناسه و إدخاله في المنظومة الحضارية الإنسانية : و هم حين يفشلوا في ذلك يكونوا قد أنتجوا مجرم أو مغتصب او بلطجي أو هجام آخر و أطلقوه على المجتمع.
المرء عادة يتعلم كيف يتحكم في نفسه و كيف يقودها من خلال الأساليب التي يتعامل بها أبوه و أمه معه, فلو كان أبوه حاكما قاسيا مستبدا و الأم طيبة مسكينة ضعيفة (مثلا) صار أطفاله إما خيارين لا ثالث لهما : إما أن يستبدوا بأنفسهم و يقهروها (أقمع جسدي و أستعبده : كورنثوس الأولى – 9 : 27) كما كان الأب يفعل, او تكون عقولهم ضعيفة و متساهلة معهم مثل الأم .. او يقوموا بدمج الأسلوبين بشكل ما أو درجة ما. لكن لان الأب و الأم يكونوا هم دائما صوت العقل بالنسبة للطفل و أساليبهم في التربية يفترض أن لها حجج ضرورية أو عقلانية فهو حين يستقل عنهم تدريجيا يبدأ عقله لا إراديا في ممارسة الدور الذي كانوا هم يمارسوه .. لكن لو كان الآباء أشخاص منفلتين و الأمهات لا تهتم و لا ترعى أو كان الآباء و الأمهات هم رعاة الإنفلات و الرعونة فلا يمكن للمرء أن ينتظر إنسانا عاقلا نتاج تربيتهم هذة.
يمكن فعلا إعتبار أن السلطة الأبوية هي منبع و أصل كل السلطات, و حجتها الأساسية هي الضرورة العملية ثم تاتي بعد ذلك حجج مثل الفضل و التضحية التي قام بها الآباء و الأمهات, أو القداسة الإلهية (بطبيعة الحال) لمكانة الأب و الأم. و لهذا يمكن فهم ان السلطة دائما هي وظيفة العقل, كما أن العقل لا يكون عقلا لو لم يمارس سلطة. فالحكومة هي عقل البلد كما ان الآباء و الأمهات هم عقل الأسرة, و كل من يمارس سلطة هو يتطوع لكي يكون عقل المكان أو النظام الذي يتطوع لرئاسته أو قيادته .. و هو ما لن يكون له أي معنى لو كان فاشلا في التحكم في إنفعالاته و رغباته و غرائزه. كل عقل هو سلطة في حد ذاته, سلطة على الجسد الحامل و المنتج لهذا العقل .. كما أن كل سلطة هي عقل الكيان أو المنظومة التي تتسلط عليها : لان السلطة وظيفة لكن العقل هوية.
العقل ليس إلها
الخطأ الذي يقع فيه العقلاء أو العقلانيين هو أنهم يقدسون عقولهم أو حتى يقدسون العقل في ذاته, بل و قد ينزلقوا بسبب ذلك في إحتقار الذات الغبية التي لا تعقل .. و للأسف هذا المنطق قادر لوحده على إفساد أي قدرة على التحكم في الذات أو توجيهها. فالذات يعني الكرامة و النرجسية و الأنانية التي لا تعبأ بضروريات و لا يهمها عقلانيات, و هي تريد إحترام و معاملة طيبة (بلا تدليل أو تساهل) من العقل لكي يقوى على التحكم فيها و قيادتها. لكن الأسلوب الستاليني في التحكم (نسبة إلي الزعيم السوفيتي / جوزيف ستالين) قادر على جعل الذات تتمرد و تنفر و ترفض الإنصياع للمطالب العقلية الضرورية. ببساطة لو ظل العقل يتصرف بإستعلاء على الذات, حين يحاول المرء أن يأمر و ينهي نفسه محاولا حمل و إجبار نفسه على فعل أشياء صعبة جدا او أن يراكم على نفسه المهام و الواجبات, لن يجد إلا كل عصيان و تمرد و رفض للإنصياع من هذة النفس المسكينة التي يعيش عقلها في التصورات و الخيالات و لا يستطيع فهم النفس بطريقة تسمح لهذا العقل أن ينجح فعلا في توجيه الذات و تحقيق نجاحات و إنجازات حقيقية ملموسة .. يحدث مع الإنسان و ذاته كما يحدث مع الحكومة و شعبها كما يحدث مع كل عقل و ذاته.بالطبع العقل ليس إلها, و التصور الديني عن عقل خارق يحيا في السماء, عقل يحقق إرادته عن طريق كن فيكون, عقل لا يحتاج إلي ذات يحاول أن يحملها على فعل أشياء و الإلتزام بأعمال بشكل متواصل, عقل لا يجتهد و لا يتعب و لا يترقى و لا يتطور لانه يحقق كل شيء من خلال الأمر و النهي .. هذا التصور فاسد من أساسه و غير قابل للتطبيق عمليا و هو بلا معنى أساسا لأن كل عقل يحتاج إلي دماغ مادي لكي يولده فكل برنامج Software يحتاج إلي جهاز كمبيوتر Hardware لكي يقوم بتشغيله, و بدون دماغ مادية و ذات مادية لا وجود لأي نوع من أنواع الذكاء أو العقلانية. يعني لا وجود لعقل قائم لوحده في الفراغ و مشكلة التحكم في الذات هذة هي مشكلة تواجه كل عقل لأن كل عقل يعتمد ذات أو جسد تقوم بتشغيله و توليده, ذات مرتبطه بالعقل في الحياة و الموت.
لذلك فهذا الإله الملك الديكتاتور من المستحيل ان يتحكم في ذاته بأسلوبه هذا, و لا يوجد عقل يمكنه ان يتحكم في واقعه أو بيئته بأسلوب “كن فيكون” هذا .. و لا توجد حكومة يمكنها قيادة شعب بأسلوب كن فيكون الساذج التافه هذا. فالعقل لا يواجه الواقع فقط بكل غموضه و غرائبه و تحدياته و صعوباته و مشاكله, هذة هي الجبهة الخارجية فقط .. العقل يواجه أيضا ذات لديها إحتياجات نفسية بجانب الإحتياجات الغريزية و هي لا تعرف أي شيء عن الواقع بمشاكله و تحدياته إلا من خلال العقل فقط. لذلك فكل عقل يحارب دائما على جبهتين لا جبهة واحدة, و لا يوجد عقل يحارب على جبهة واحدة أبدا. العقل يحاول كشف غموض الطبيعة و حل مشاكلها معه و التحكم فيها بقوانينها الطبيعية .. سواء الطبيعة الخارجة عنه المتمثلة في الأرض و البحر و الشجر و الجو و غيره, أو الطبيعة الساكنه فيه و المتمثلة في النفسية و الغريزة.
العقل ليس إلها و ليس خارقا و لا يمكنه تحقيق أي شيء بكن فيكون, و هو يخطئ كثيرا .. يخطي لأسباب كثيرة .. يخطي لدرجة أنه لا يمكن الإعتماد عليه و هو عقل حر متغير فوضوي بهذة الطريقة. الذات حرة متغيرة فوضوية فعلا, فلو كان العقل أيضا يعمل بنفس الأسلوب فعلى الدنيا السلام. يفترض بالعقل أن يكون صوت الحكمة و صوت النظام و صوت الضمير في كل إنسان, و لكن لان العقل هو كيان شخصي أيضا فهو غير قادر لوحده على تحقيق أي شيء.
العقل يحتاج لأن يخضع لمنطق موضوعي خارج عنها, إلي المعايير العلمية الموضوعية التي لا تجامل العقل و لا تضطهده .. لان العلم موضوعي و محايد اشد ما تكون الموضوعية و الحياد. العقل سيخضع حتما شاء هذا أم أبى, العقل لا يتعلم أو يمارس سلطة إلا من خلال أشخاص و موضوعات : و لان كل الأشخاص يضعفون أحيانا و يخطئون أحيانا (كثيرا أو قليلا) فلا معنى من ترك العقل ينبهر أو ينقل عن أشخاص مخطئين. نعم, الموضوعات أيضا تخطئ و خصوصا العقائد .. لكن العلم (يخطئ أيضا) هو الوحيد الذي لديه آلية دائمة للتطهر الذاتي من الأخطاء و التكامل و التطور بشكل دائم من خلال المنهج العلمي الذي يعتمد على التجريب و الإختبار و المراجعة إلي ما لا نهاية, العلم هو أفضل ما انتجه العقل البشري و الذات البشري : العلم هو درة التاج العقلي و ذروة سنام العقلانية.
و لذلك فالعقل (أي عقل) بدون العلم الموضوعي الخارج عن الذات و الخارج عن العقل, بدون هذة المعايير النزيهة الشريفة المحايدة التي تتحسن دائما و تتطور دائما, لا مفر من أن يسقط في الخطأ و يتورط في العيوب و يفقد السيطرة على الذات و في النهاية يصير شخصا مخرفا جاهلا .. شخص يقدس العقل (عقله) الخاوي من أي علم أو منطق, العقل التافه السخيف الذي لا يحقق أي إنجاز عقلي. نعم, العقل بدون الآلية العلمية و بدون المعلومات الصحيحة لن يعمل بشكل جيد أو ناجح أبدا .. أي مدير او قائد في العالم يمكنه أن يصدر قرارات او يتحكم او يراقب بدون معلومات صحيحة او منهجية علمية محترمة ؟!!
العلم هنا يمكن أن يكون الحكم و المرجع و القاضي بين العناصر الإنسانية الثلاث, قاضي عدل و حكم موضوعي محايد لا يتحامل على طرف لصالح طرف لانه ليس شخصا أصلا فهو لا يحب و لا يكره بل كل موضوعه هو الحق و الخير و العدل للجميع. و العلم هنا حين يتمركز و يفض الإشتباك بين العقل و النفسية و الغريزة سيكون دعامة قوية للشخصية, مثل النظارة لضعيف النظر و مثل الدعامات المعدنية في الشرايين القلبية لمريض القلب. العلم يخضع للواقع فهو موضوعه و مجال بحثه, لذلك فحين يخضع العقل للعلم سيكتسب العقل واقعية و موضوعية و قدرة و كفاءة و فعالية و نجاح العلم .. و سيقوى على التحكم الإحترافي في النفسية و الغريزة. بإستخدام العلم كدعامة للشخصية سيستطيع حتى ضعاف العقول أو النفوس أو الغرائز أن يصبحوا أقوياء و أكثر تكيفا .. لأن العلم سيعفي العقل من أن يكون سلطة فاسدة أو مفسدة, مخدوعة أو خادعة, مظلومة أو ظالمة, فاشلة أو ضعيفة.
|