|
أهم و أول مبدأ من مبادئ العلموية هو مبدأ سيادة العلم Sovereignty of Science (العلم ينظم و يقود), و هذا يتجلى و يتم تفعيله من خلال ثلاث مظاهر ..
و مبدأ سيادة العلم يتحجج و يبرر موقفه بالنجاح العملي للعلم, فالعلم هو أنجح نظام معرفي-إدراكي صاغه الإنسان و إعتمد عليه .. و نجاحات العلم تلمس كل إنسان على سطح الأرض, إبتداءا من اللمبة الكهربية و المياة النظيفة و ليس إنتهاءا بالطب و الهندسة و الزراعة. العلم يعمل, العلم فعال .. و هو منهج شامل طموحه بلا حدود. و كل شيء في عالمنا له علم خاص به, الإقتصاد علم, و الإدارة علم, و الانظمة بكل أنواعها علوم, الجسم البشري علوم .. و هكذا. فمبدأ سيادة العلم يعني التحكم في كل الأنظمة الحياتية التي يعتمد عليها الإنسان في وجوده من خلال أنظمة معرفية-إدراكية هي كل العلوم.
و من خلال نظرية الأنظمة نتعرف على الوجود كله كأنظمة ديناميكية متداخلة, و نلاحظ ان لكل نظام ديناميكي (حركي) ناجح هناك منظم أو متحكم أو قائد معين يتمركز في هذا النظام و يتحكم و ينظم هذا النظام و يدعم وجوده. الشمس مثلا في مركز النظام الشمسي, نواة الذرة في مركز الذرة .. و بالنسبة للكائنات الحية نجد أن لكل خلية حية هناك منظم هو نواة الخلية, و كل كائن حي متعدد الخلايا له دماغ (بغض النظر عن قدراتها) و من ثم على هذا القياس تحتاج الإنسانية إلي مركز او عقل مدبر يرعى شئونها و يوجهها مادامت الآلهة زائفة خرافية أو لا تعبأ بالبشر أو بمصير الإنسانية .. و بتطبيق مبدأ سيادة العلم نعرف ان الإنسانية لا تحتاج إلي مجرد عقل عادي (مثل الأمم المتحدة) بل تحتاج إلي عقل علمي فعال و ناجح مثل العلم نفسه.
1- سيادة العلم على العقل الجمعي
تطبيق المبدأ على العقل له فوائد ضخمة جدا, فالعقل البشري للأسف معرض للضياع و الإنحراف بل و الجنون بسبب طوفان الأفكار و المعاني التي يقابلها يوميا و تؤثر على حياته. و من ضمن أكبر التحديات أمام العقل هما الجهل و الخرافة (توهم العلم) و هي التحديات التي تجعل أي عقل عاجز تماما عن التصرف بشكل له منطق او معنى. و من مظاهر الجنون على العقل ليس فقط الهلاوس السمعية و البصرية و التوهمات التي تصيب الإنسان فيعتقد مثلا أنه نابليون أو نيرون او ما إلي ذلك .. بل ما نراه يوميا في حياتنا و يقدسه الكثيرون من مدعي النبوة و العلاقات الخاصة مع الآلهة و هي من أكثر الإنحرافات العقلية شيوعا و إنتشارا. لذلك من السهل جدا ان نجد بشر يسجدون و يتعبدون لعيش و خمر كما يفعل المسيحيون الذين يزيد عددهم على 2 مليار نسمة !! او نجد بشر يتعبدون لحجر أحمق او يضربون الشيطان بالحجارة مثلما يفعل المسلمون الذين يزيد عددهم على 1.5 مليار نسمة !!
و كافة الخرافات الدينية و غير الدينية (التنجيم مثلا) التي تصيب المرء بالجنون و تجعله يتوهم علاقة خاصة مع آلهة إفتراضية أو ظهورات خاصة لعفاريت مقدسة (ظهور مريم العذراء مثلا) أو معجزات خاصة او ما إلي ذلك يمكن الوقاية منها عن طريق ما يعرف بالإلحاد. و الإلحاد المقصود هنا هو الإلحاد العلمي تحديدا (و ليس الإلحاد التحرري أو الإلحاد المؤدلج مثلا), او المقصود هو الإلحاد بإعتباره الحارس الشخصي (بودي جارد) للعلم او الجهاز المناعي الخاص بالعلم أو البرنامج المضاد للفيروسات الذي يهاجم كل ما او من يحاول الإعتداء على العلم.
و بوجه عام يعتبر مبدأ سيادة العلم على العقل هو أفضل حامي و حافظ للعقل من الضياع او الجنون وسط هذا الكم اللانهائي من الأفكار على تنوعها و غرابتها, أفضل من يصون العلم من الحرية المطلقة للفكر و العقيدة. فأي حق أو حرية في عالمنا هو حق محدود و حرية لها إطار, من أول الحق في الحياة و السكن و العمل .. و حتى الحقوق الفكرية و الإبداعية المحدودة بالسب و القذف, إلا حرية الفكر و العقيدة المتروكة في إنفلات و إنحلال بلا معنى.
لكن بتفعيل مبدأ سيادة العلم يصير كل ما يتعارض مع العلم هو جنون مرفوض او خرافة بلا معنى, و يكون الرأي رأيا له إعتباره في إطار العقلانية العلمية فقط .. و ليس أبعد من ذلك بمليمتر واحد. فالرأي قائم أساسا على الجهل, و من يعلم لا يعتقد .. فالراي يبدأ حين تنتهي المعلومة. و هو ما يقي العقل (الوعي) الإنساني من كل الإنحرافات و الجنون و التخريف و الهلاوس و التوهمات بوجه عام .. حل واحد فقط يستطيع ان يمنع عنك كل الهجمات التي تنتابك من الأفكار الخرافية المنحرفة.
طبعا هذا لا يعني أن يتم قهر الوعي بالعلم او فرضه بالعنف : مجرد فقط أن تتبنى الدولة النهج العلمي و تقوم بدورها في تعليم الناس و زرع الذكاء فيهم جينيا و ثقافيا بالوسائل العلمية و التعليمية .. ثم الإنتظار و جني الثمار. لكن لا عنف طبعا و لا إهدار للثروة البشرية .. لا لشيء إلا لأن العنف يتسبب في ردة فعل و مقاومة : و الغرض هو مساعدة الناس لكي يكونوا أذكياء و علماء, و ليس زرع الكراهية فيهم تجاه العلم و الذكاء !!
و الغريب في الموضوع هو وجود المشكلة أصلا في حضور العلم الفعّال الناجح, يعني فلنلجأ للعلم و لنرى ! فمستقبل الجنس البشري من حيث كونه “إنسان عاقل” لن يكون له أي معنى بغير العلم كهدف أسمى للإنسانية. أن يصير الإنسان عالما و يعيش حياته شاهدا على عظمة الكون و تعقيد العالم .. ان يحيا حياته كإنسان عاقل يسعى لكي يتعلم و يعقل و يجرب و يخترع و يحل المشاكل, ان يعرف عن عالمه اكثر و عن نفسه اكثر قبل أن يموت : هذا هدف سامي.
و بتطبيق مبدأ سيادة العلم نعرف أن المجتمع الإنساني يحتاج إلي قيادة واعية, قيادة من أذكى العلماء و اكثرهم عبقرية و نجاحا و إنجازا .. هذة الطفرات البيولوجية التي منت بها الطبيعة على الإنسانية لكي تكتشف العالم و تخترع الأدوات و التقنيات هم أفضل من يكون مركز و منظم و قائد الإنسانية. الدماغ البشرية مكونة من خلايا عصبية ينتجها الجسم لمعالجة المعلومات التي تنقلها الحواس لكي ينظم عمل الجسم البشري بناءا على ما تنقله الحواس, و لو تم تكوين دماغ للجنس البشري أيضا لكي يقوم بنفس مهام الدماغ في الجسم البشري فلن يكون أصلح من العلماء الأجلاء لكي يقوموا بهذا الدور. العلماء القادرين على رؤية الواقع بشكل علمي موضوعي و القادرين على حل مشاكل الجنس البشري بحلول و تقنيات علمية مبتكرة .. و من ثم قيادة سفينة الجنس البشري في بحور الجهل و التخلف المتلاطمة.
و بالطبع ليس معنى وجود دماغ للجسم البشري ان بقية الأعضاء لا قيمة لها من أيدي و عيون و أرجل و غيره, الفكرة هي تقسيم ادوار لا أكثر و لا أقل .. العين ترى و اليد تعمل و الدماغ تنظيم و الكل يمثل وحدة واحدة. و لا يوجد من هو أصلح لكي يكون دماغ الجنس البشري و قيادته إلا علماء الإجتماع و الإقتصاد و الأنظمة و التحكم و كل انواع العلوم (كل شأن حياتي له علمه و علماؤه), فهم الأقدر على معرفة و معالجة المعلومات و إستخلاص النتائج و الحلول منها.
أساسا نحن ولدنا لكي نكون علماء, كلنا كلنا (بأقدار مختلفة و متدرجة و حسب ميل كل واحد لكن علماء و ليس أقل من ذلك) .. هذا هو قدرنا و نداء إنسانيتنا الذي يجب أن نلبيه. علماء و ليس محامين و مقاولين و محاسبين و عسكريين و عمال نظافة و خبراء تجميل, علماء و ليس أي شيء آخر. لهذا من بديهيات أي دولة و من ابسط واجبات أي نظام سياسي هو ان يقضي على الامية و الجهل و الغباء, أن يقضي على طبقية الذكاء و العلم.
على أي دولة ان تتولى مسئولياتها في تعليم الناس و الكفاح الدائم ضد الجهل بل و ضد الغباء الجيني الوراثي أيضا. و لكي نكون علماء نحتاج لميكنة كل شيء من أول الزراعة و الصناعة و حتى الخدمات الضرورية و الترفيهيه, و حتى ما يتبقى من عمل يتم تقسيمه علينا جميعا .. كعلماء. لكن الواجب و الافضل لما يمكن أن يفعله كل بشري هو ان يكتشف شيئا جديدا, ان يغزو أراضي الجهل بإسم الإنسانية .. بسم العلم, و هو الشيء البعيد جدا عن التحقق في عالم اليوم.
لكل هذا نحتاج من العلماء القليلين في عصرنا ان يقودونا نحو هذة المدينة الفاضلة, يوتوبيا العلم. لقد قامت الماركسية على طبقية إمتلاك الموارد و كانت صيحتها الاولى هي : “يا عمال العالم اتحدوا“, و كانت ثورتها ثورة بروليتاريا ضد البرجوازيين ملاك وسائل الإنتاج الذين لا يعملون. لكنها فشلت و حتما كانت ستفشل, لان الثورة الحقيقية هي ثورة علم و قيادة ذكية قادرة على العقلنة و الفهم و الإدارة على أسس علمية صلبة .. و ليس قيادة مؤدلجة من رجال متحزبين متعصبين.
لهذا فالصيحة العلموية هي : “يا علماء العالم اتحدوا“, فلنقيم معكم ديكتاتورية العلم المستنيرة بدلا من العشوائية و الفوضى الديموقراطية, و بدلا من ديكتاتورية العمال الشغيلة الأقل علما و ذكاء بطبيعة الحال. نحن نحتاج لحكمتكم و قيادتكم .. نحتاجكم لكي تنتشلوا هذا العالم الفوضوي الأحمق الغارق في غباؤه و دماؤه و فقره و جهله و عشوائيته نحو عالم ارحب اكثر انسانية و ذكاء و تنظيما و وفرة و رفاهية و علما و عقلا. لا يوجد منقذ سواكم في هذا العالم المجنون المتخبط, بحق علمكم و ذكاءكم و التزامكم الأخلاقي تجاه البقية الأقل علم و ذكاء.
1- العقل : و هو كيان ذكي فضولي يقتات على المعلومات و الأنظمة المعرفية (برامج معالجة المعلومات) مستخدما في ذلك الحواس و التجربة و المنطق و التعلم. و هذا الكيان لا يقدر إلا ثلاث قيم أساسية, و هي الحق (صدق المعلومات) و الخير (تقنيات حل المشاكل) و السعادة (انسجام النفسية مع المجتمع و الغريزة مع الواقع).
2- النفسية : و هي كيان إجتماعي عاطفي يقتات على العلاقات و الانشطة الإجتماعية مع بقية البشر مستخدمة في ذلك اللغة و التلامس و أي أساليب للتواصل و على الأخص المباشر منها. و هذا الكيان لا يقدر إلا ثلاث قيم أساسية, و هي “الإحترام” تقدير الناس له و تحقيقه لذاته من خلال أعمال و انشطة لها أهمية و منفعة عامة, و “الحب” تعاطف الناس له و شعوره بأنه محبوب من محيطه و مرغوب من الجنس الآخر, و “الأمان” أن يكون محسوب حسابه و معتبر كقوة لا يستهان بها.
3- الغريزة : و هي كيان حيواني إستهلاكي يقتات على المتع و الملذات مستخدمة في ذلك كافة الإمكانيات الحسية. و هذا الكيان لا يقدر إلا ثلاث قيم أساسية, و هي “الفنون” من رسم و نحت و تصوير و سنيما و مسرح و موسيقا و غناء و أدب و غيره, و “اللعب” من خلال مسابقات تنافسية لا هدف لها إلا الترويح و الترفيه عن اللاعبين, “اللذات الحسية المباشرة” مثل الجنس و الأطعمة و المشروبات طيبة المذاق و كل متعة حيوانية مرتبطة أساسا ببقاء النوع.
و الغرض من تطبيق سيادة العلم هنا هو تمكين العقل من التحكم في النفسية و الغريزة و قيادتهم لتحقيق الإشباع العاقل او التوازن بين الإشباع العقلي من ناحية و بين الإشباع نفسي و الغريزي من ناحية أخرى. و لا حاجة للقول أن بدون التقنيات العلمية السلوكية و التدريب الدؤوب يبدو تحكم المرء في ذاته (تحكم العقل في نفسيته و غريزته) أمرا شديد الصعوبة. على أن بسبب تدرج القدرات الطبيعية لأفراد الجنس البشري يمكن توصيف ثلاث مستويات من التحكم حيث يختار كل فرد ما يناسبه منهم ..
المستوى الأول : تحكم ضعيف / الإنسان المتحضر
و هو الحد الأدنى من التحكم و يناسب الأفراد ضعاف الإرادة, و كل إنجاز هذا النوع من التحكم هو منع الإنفلات إلي الحيوانية أو البربرية و الذي يورط صاحبه في التورط الشهواني و الإنحرافات السلوكية و التعدي على حقوق المجتمع و الآخرين.
المستوى الثاني : تحكم متوسط / الإنسان العسكري
و هو حد الإنجاز و يناسب متوسطي الإرادة, و هذا النوع من التحكم يمكن صاحبه من تحقيق الإنجازات العملية التي تحتاج إلي التزام و مثابرة .. بالإضافة طبعا لإمكانيات النوع الأول.
الثالث : تحكم قوي / الإنسان الآلي
و هو يعبر عن أقوياء الإرادة القادرين على الإنضباط و الإلتزام إلي أقصى حد, و هذا النوع من التحكم يجعل صاحبه من المؤثرين و القادة .. كل في مجاله. فالقوة و القيادة هي إستحقاق حصري للعقول العلمية القادرة على معالجة الواقع معلوماتيا و تطوير واقعهم إجتماعيا و التحكم في الذات سلوكيا.
و بتطبيق مبدأ سيادة العلم على العقل (هناك من يطبقون ذلك بشكل لاواعي), يمكن للعقل تحقيق السيادة على النفسية و الغريزة .. و الترقي حتى من مستوى إلي مستوى بشكل علمي منهجي. و بدون تحكم العقل على النفسية و الغريزة سهل جدا ان يتورط المرء في مشاكل نفسية و إنفلات غرائزي .. كما نسمع و نشاهد في كثير من الاحيان. و لا حاجة للقول أن المستويات الثاني و الثالث لا تلزم احدا سوى من يبتغيها و يرى في نفسه القدرة على إحتمال تعبها و الرغبة في تذوق عسلها .. لكن المستوى الأول ملزم لكل إنسان متحضر و حد أدنى من الإلتزام الأخلاقي من الفرد تجاه نفسه أولا و تجاه مجتمعه ثانيا. و في كل الأحيان هذة التقييمات هي تقييمات خاصة يعلمها فقط المرء عن نفسه و لا تخص أحدا .. و الفكرة فقط من تطبيق سيادة العلم هنا هو مساعدة من يرغب في تحسين قدراته على التحكم في نفسه ممن يتبنى القناعات العلموية.
- سيادة العلم على الوعي الجمعي
- سيادة العلم على المجتمع
- سيادة العلم على الذات
و مبدأ سيادة العلم يتحجج و يبرر موقفه بالنجاح العملي للعلم, فالعلم هو أنجح نظام معرفي-إدراكي صاغه الإنسان و إعتمد عليه .. و نجاحات العلم تلمس كل إنسان على سطح الأرض, إبتداءا من اللمبة الكهربية و المياة النظيفة و ليس إنتهاءا بالطب و الهندسة و الزراعة. العلم يعمل, العلم فعال .. و هو منهج شامل طموحه بلا حدود. و كل شيء في عالمنا له علم خاص به, الإقتصاد علم, و الإدارة علم, و الانظمة بكل أنواعها علوم, الجسم البشري علوم .. و هكذا. فمبدأ سيادة العلم يعني التحكم في كل الأنظمة الحياتية التي يعتمد عليها الإنسان في وجوده من خلال أنظمة معرفية-إدراكية هي كل العلوم.
و من خلال نظرية الأنظمة نتعرف على الوجود كله كأنظمة ديناميكية متداخلة, و نلاحظ ان لكل نظام ديناميكي (حركي) ناجح هناك منظم أو متحكم أو قائد معين يتمركز في هذا النظام و يتحكم و ينظم هذا النظام و يدعم وجوده. الشمس مثلا في مركز النظام الشمسي, نواة الذرة في مركز الذرة .. و بالنسبة للكائنات الحية نجد أن لكل خلية حية هناك منظم هو نواة الخلية, و كل كائن حي متعدد الخلايا له دماغ (بغض النظر عن قدراتها) و من ثم على هذا القياس تحتاج الإنسانية إلي مركز او عقل مدبر يرعى شئونها و يوجهها مادامت الآلهة زائفة خرافية أو لا تعبأ بالبشر أو بمصير الإنسانية .. و بتطبيق مبدأ سيادة العلم نعرف ان الإنسانية لا تحتاج إلي مجرد عقل عادي (مثل الأمم المتحدة) بل تحتاج إلي عقل علمي فعال و ناجح مثل العلم نفسه.
1- سيادة العلم على العقل الجمعي
تطبيق المبدأ على العقل له فوائد ضخمة جدا, فالعقل البشري للأسف معرض للضياع و الإنحراف بل و الجنون بسبب طوفان الأفكار و المعاني التي يقابلها يوميا و تؤثر على حياته. و من ضمن أكبر التحديات أمام العقل هما الجهل و الخرافة (توهم العلم) و هي التحديات التي تجعل أي عقل عاجز تماما عن التصرف بشكل له منطق او معنى. و من مظاهر الجنون على العقل ليس فقط الهلاوس السمعية و البصرية و التوهمات التي تصيب الإنسان فيعتقد مثلا أنه نابليون أو نيرون او ما إلي ذلك .. بل ما نراه يوميا في حياتنا و يقدسه الكثيرون من مدعي النبوة و العلاقات الخاصة مع الآلهة و هي من أكثر الإنحرافات العقلية شيوعا و إنتشارا. لذلك من السهل جدا ان نجد بشر يسجدون و يتعبدون لعيش و خمر كما يفعل المسيحيون الذين يزيد عددهم على 2 مليار نسمة !! او نجد بشر يتعبدون لحجر أحمق او يضربون الشيطان بالحجارة مثلما يفعل المسلمون الذين يزيد عددهم على 1.5 مليار نسمة !!و كافة الخرافات الدينية و غير الدينية (التنجيم مثلا) التي تصيب المرء بالجنون و تجعله يتوهم علاقة خاصة مع آلهة إفتراضية أو ظهورات خاصة لعفاريت مقدسة (ظهور مريم العذراء مثلا) أو معجزات خاصة او ما إلي ذلك يمكن الوقاية منها عن طريق ما يعرف بالإلحاد. و الإلحاد المقصود هنا هو الإلحاد العلمي تحديدا (و ليس الإلحاد التحرري أو الإلحاد المؤدلج مثلا), او المقصود هو الإلحاد بإعتباره الحارس الشخصي (بودي جارد) للعلم او الجهاز المناعي الخاص بالعلم أو البرنامج المضاد للفيروسات الذي يهاجم كل ما او من يحاول الإعتداء على العلم.
و بوجه عام يعتبر مبدأ سيادة العلم على العقل هو أفضل حامي و حافظ للعقل من الضياع او الجنون وسط هذا الكم اللانهائي من الأفكار على تنوعها و غرابتها, أفضل من يصون العلم من الحرية المطلقة للفكر و العقيدة. فأي حق أو حرية في عالمنا هو حق محدود و حرية لها إطار, من أول الحق في الحياة و السكن و العمل .. و حتى الحقوق الفكرية و الإبداعية المحدودة بالسب و القذف, إلا حرية الفكر و العقيدة المتروكة في إنفلات و إنحلال بلا معنى.
لكن بتفعيل مبدأ سيادة العلم يصير كل ما يتعارض مع العلم هو جنون مرفوض او خرافة بلا معنى, و يكون الرأي رأيا له إعتباره في إطار العقلانية العلمية فقط .. و ليس أبعد من ذلك بمليمتر واحد. فالرأي قائم أساسا على الجهل, و من يعلم لا يعتقد .. فالراي يبدأ حين تنتهي المعلومة. و هو ما يقي العقل (الوعي) الإنساني من كل الإنحرافات و الجنون و التخريف و الهلاوس و التوهمات بوجه عام .. حل واحد فقط يستطيع ان يمنع عنك كل الهجمات التي تنتابك من الأفكار الخرافية المنحرفة.
طبعا هذا لا يعني أن يتم قهر الوعي بالعلم او فرضه بالعنف : مجرد فقط أن تتبنى الدولة النهج العلمي و تقوم بدورها في تعليم الناس و زرع الذكاء فيهم جينيا و ثقافيا بالوسائل العلمية و التعليمية .. ثم الإنتظار و جني الثمار. لكن لا عنف طبعا و لا إهدار للثروة البشرية .. لا لشيء إلا لأن العنف يتسبب في ردة فعل و مقاومة : و الغرض هو مساعدة الناس لكي يكونوا أذكياء و علماء, و ليس زرع الكراهية فيهم تجاه العلم و الذكاء !!
2- سيادة العلم على المجتمع
واضح تماما أن في عالمنا اليوم و بعد تراجع الماركسية لم يعد احد يظن أن لحياته معنى كإنسان إلا المؤمنين بالخرافات الدينية, و هو ما جعل الصراع يدور بين حالتين من التخلف العقلي : الإنحراف العقلي الديني ضد التحلل العقلي الليبرالي !! المنحرفين دينيا يريدون تسليط خرافة على الإنسانية لجعل الحياة ذات معنى و الحصول على بركات السماء ! بينما الليبراليين لا يريدون أي شيء إلا أن الفريق الأول يفشل فقط .. لكن لا مشروع و لا حل لأي شيء.و الغريب في الموضوع هو وجود المشكلة أصلا في حضور العلم الفعّال الناجح, يعني فلنلجأ للعلم و لنرى ! فمستقبل الجنس البشري من حيث كونه “إنسان عاقل” لن يكون له أي معنى بغير العلم كهدف أسمى للإنسانية. أن يصير الإنسان عالما و يعيش حياته شاهدا على عظمة الكون و تعقيد العالم .. ان يحيا حياته كإنسان عاقل يسعى لكي يتعلم و يعقل و يجرب و يخترع و يحل المشاكل, ان يعرف عن عالمه اكثر و عن نفسه اكثر قبل أن يموت : هذا هدف سامي.
و بتطبيق مبدأ سيادة العلم نعرف أن المجتمع الإنساني يحتاج إلي قيادة واعية, قيادة من أذكى العلماء و اكثرهم عبقرية و نجاحا و إنجازا .. هذة الطفرات البيولوجية التي منت بها الطبيعة على الإنسانية لكي تكتشف العالم و تخترع الأدوات و التقنيات هم أفضل من يكون مركز و منظم و قائد الإنسانية. الدماغ البشرية مكونة من خلايا عصبية ينتجها الجسم لمعالجة المعلومات التي تنقلها الحواس لكي ينظم عمل الجسم البشري بناءا على ما تنقله الحواس, و لو تم تكوين دماغ للجنس البشري أيضا لكي يقوم بنفس مهام الدماغ في الجسم البشري فلن يكون أصلح من العلماء الأجلاء لكي يقوموا بهذا الدور. العلماء القادرين على رؤية الواقع بشكل علمي موضوعي و القادرين على حل مشاكل الجنس البشري بحلول و تقنيات علمية مبتكرة .. و من ثم قيادة سفينة الجنس البشري في بحور الجهل و التخلف المتلاطمة.
و بالطبع ليس معنى وجود دماغ للجسم البشري ان بقية الأعضاء لا قيمة لها من أيدي و عيون و أرجل و غيره, الفكرة هي تقسيم ادوار لا أكثر و لا أقل .. العين ترى و اليد تعمل و الدماغ تنظيم و الكل يمثل وحدة واحدة. و لا يوجد من هو أصلح لكي يكون دماغ الجنس البشري و قيادته إلا علماء الإجتماع و الإقتصاد و الأنظمة و التحكم و كل انواع العلوم (كل شأن حياتي له علمه و علماؤه), فهم الأقدر على معرفة و معالجة المعلومات و إستخلاص النتائج و الحلول منها.
أساسا نحن ولدنا لكي نكون علماء, كلنا كلنا (بأقدار مختلفة و متدرجة و حسب ميل كل واحد لكن علماء و ليس أقل من ذلك) .. هذا هو قدرنا و نداء إنسانيتنا الذي يجب أن نلبيه. علماء و ليس محامين و مقاولين و محاسبين و عسكريين و عمال نظافة و خبراء تجميل, علماء و ليس أي شيء آخر. لهذا من بديهيات أي دولة و من ابسط واجبات أي نظام سياسي هو ان يقضي على الامية و الجهل و الغباء, أن يقضي على طبقية الذكاء و العلم.
على أي دولة ان تتولى مسئولياتها في تعليم الناس و الكفاح الدائم ضد الجهل بل و ضد الغباء الجيني الوراثي أيضا. و لكي نكون علماء نحتاج لميكنة كل شيء من أول الزراعة و الصناعة و حتى الخدمات الضرورية و الترفيهيه, و حتى ما يتبقى من عمل يتم تقسيمه علينا جميعا .. كعلماء. لكن الواجب و الافضل لما يمكن أن يفعله كل بشري هو ان يكتشف شيئا جديدا, ان يغزو أراضي الجهل بإسم الإنسانية .. بسم العلم, و هو الشيء البعيد جدا عن التحقق في عالم اليوم.
لكل هذا نحتاج من العلماء القليلين في عصرنا ان يقودونا نحو هذة المدينة الفاضلة, يوتوبيا العلم. لقد قامت الماركسية على طبقية إمتلاك الموارد و كانت صيحتها الاولى هي : “يا عمال العالم اتحدوا“, و كانت ثورتها ثورة بروليتاريا ضد البرجوازيين ملاك وسائل الإنتاج الذين لا يعملون. لكنها فشلت و حتما كانت ستفشل, لان الثورة الحقيقية هي ثورة علم و قيادة ذكية قادرة على العقلنة و الفهم و الإدارة على أسس علمية صلبة .. و ليس قيادة مؤدلجة من رجال متحزبين متعصبين.
لهذا فالصيحة العلموية هي : “يا علماء العالم اتحدوا“, فلنقيم معكم ديكتاتورية العلم المستنيرة بدلا من العشوائية و الفوضى الديموقراطية, و بدلا من ديكتاتورية العمال الشغيلة الأقل علما و ذكاء بطبيعة الحال. نحن نحتاج لحكمتكم و قيادتكم .. نحتاجكم لكي تنتشلوا هذا العالم الفوضوي الأحمق الغارق في غباؤه و دماؤه و فقره و جهله و عشوائيته نحو عالم ارحب اكثر انسانية و ذكاء و تنظيما و وفرة و رفاهية و علما و عقلا. لا يوجد منقذ سواكم في هذا العالم المجنون المتخبط, بحق علمكم و ذكاءكم و التزامكم الأخلاقي تجاه البقية الأقل علم و ذكاء.
3- سيادة العلم على الذات
و هذا التطبيق يعتبر أقل حدة و صرامة من التطبيقين الأول و الثاني لمبدأ سيادة العلم إعتبارا للإختلافات الفردية الحتمية, لكن بوجه عام فهذا التطبيق يعني اعطاء دفعة لعقل الفرد لكي يقوى على التحكم في إنفعالاته و سلوكه .. بالإعتماد على علم النفس (علم نظري) و الطب النفسي (علم تطبيقي) و علم التنمية الشخصية و كل علم مختص. فكل إنسان هو في الحقيقة لا يمثل وحدة واحدة بل يمثل ثلاث كيانات مختلفة لها إرادات مختلفة تعيش معا في شكل واحد بالإعتماد كل على الآخر, و هذة الكيانات الثلاثة هي : العقل و النفسية و الغريزة .. او كما يسميها سيجموند فرويد : الأنا الأعلى و الأنا و الذات.1- العقل : و هو كيان ذكي فضولي يقتات على المعلومات و الأنظمة المعرفية (برامج معالجة المعلومات) مستخدما في ذلك الحواس و التجربة و المنطق و التعلم. و هذا الكيان لا يقدر إلا ثلاث قيم أساسية, و هي الحق (صدق المعلومات) و الخير (تقنيات حل المشاكل) و السعادة (انسجام النفسية مع المجتمع و الغريزة مع الواقع).
2- النفسية : و هي كيان إجتماعي عاطفي يقتات على العلاقات و الانشطة الإجتماعية مع بقية البشر مستخدمة في ذلك اللغة و التلامس و أي أساليب للتواصل و على الأخص المباشر منها. و هذا الكيان لا يقدر إلا ثلاث قيم أساسية, و هي “الإحترام” تقدير الناس له و تحقيقه لذاته من خلال أعمال و انشطة لها أهمية و منفعة عامة, و “الحب” تعاطف الناس له و شعوره بأنه محبوب من محيطه و مرغوب من الجنس الآخر, و “الأمان” أن يكون محسوب حسابه و معتبر كقوة لا يستهان بها.
3- الغريزة : و هي كيان حيواني إستهلاكي يقتات على المتع و الملذات مستخدمة في ذلك كافة الإمكانيات الحسية. و هذا الكيان لا يقدر إلا ثلاث قيم أساسية, و هي “الفنون” من رسم و نحت و تصوير و سنيما و مسرح و موسيقا و غناء و أدب و غيره, و “اللعب” من خلال مسابقات تنافسية لا هدف لها إلا الترويح و الترفيه عن اللاعبين, “اللذات الحسية المباشرة” مثل الجنس و الأطعمة و المشروبات طيبة المذاق و كل متعة حيوانية مرتبطة أساسا ببقاء النوع.
و الغرض من تطبيق سيادة العلم هنا هو تمكين العقل من التحكم في النفسية و الغريزة و قيادتهم لتحقيق الإشباع العاقل او التوازن بين الإشباع العقلي من ناحية و بين الإشباع نفسي و الغريزي من ناحية أخرى. و لا حاجة للقول أن بدون التقنيات العلمية السلوكية و التدريب الدؤوب يبدو تحكم المرء في ذاته (تحكم العقل في نفسيته و غريزته) أمرا شديد الصعوبة. على أن بسبب تدرج القدرات الطبيعية لأفراد الجنس البشري يمكن توصيف ثلاث مستويات من التحكم حيث يختار كل فرد ما يناسبه منهم ..
المستوى الأول : تحكم ضعيف / الإنسان المتحضر
و هو الحد الأدنى من التحكم و يناسب الأفراد ضعاف الإرادة, و كل إنجاز هذا النوع من التحكم هو منع الإنفلات إلي الحيوانية أو البربرية و الذي يورط صاحبه في التورط الشهواني و الإنحرافات السلوكية و التعدي على حقوق المجتمع و الآخرين.
المستوى الثاني : تحكم متوسط / الإنسان العسكري
و هو حد الإنجاز و يناسب متوسطي الإرادة, و هذا النوع من التحكم يمكن صاحبه من تحقيق الإنجازات العملية التي تحتاج إلي التزام و مثابرة .. بالإضافة طبعا لإمكانيات النوع الأول.
الثالث : تحكم قوي / الإنسان الآلي
و هو يعبر عن أقوياء الإرادة القادرين على الإنضباط و الإلتزام إلي أقصى حد, و هذا النوع من التحكم يجعل صاحبه من المؤثرين و القادة .. كل في مجاله. فالقوة و القيادة هي إستحقاق حصري للعقول العلمية القادرة على معالجة الواقع معلوماتيا و تطوير واقعهم إجتماعيا و التحكم في الذات سلوكيا.
و بتطبيق مبدأ سيادة العلم على العقل (هناك من يطبقون ذلك بشكل لاواعي), يمكن للعقل تحقيق السيادة على النفسية و الغريزة .. و الترقي حتى من مستوى إلي مستوى بشكل علمي منهجي. و بدون تحكم العقل على النفسية و الغريزة سهل جدا ان يتورط المرء في مشاكل نفسية و إنفلات غرائزي .. كما نسمع و نشاهد في كثير من الاحيان. و لا حاجة للقول أن المستويات الثاني و الثالث لا تلزم احدا سوى من يبتغيها و يرى في نفسه القدرة على إحتمال تعبها و الرغبة في تذوق عسلها .. لكن المستوى الأول ملزم لكل إنسان متحضر و حد أدنى من الإلتزام الأخلاقي من الفرد تجاه نفسه أولا و تجاه مجتمعه ثانيا. و في كل الأحيان هذة التقييمات هي تقييمات خاصة يعلمها فقط المرء عن نفسه و لا تخص أحدا .. و الفكرة فقط من تطبيق سيادة العلم هنا هو مساعدة من يرغب في تحسين قدراته على التحكم في نفسه ممن يتبنى القناعات العلموية.
|